وفي رواية : انهزموا ورب الكعبة ! انهزموا ورب الكعبة ! حتى هزمهم الله . قال : وكأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يركض خلفهم على بغلته.
رواه أحمد ( 1 \ 207 ) ومسلم (1775) (76 و 77).
(20) ومن باب: غزوة حنين
كانت غزوة حنين بعد فتح مكة بأيام ، وذلك أن مكة فتحت لعشر بقين من رمضان سنة ثمان من الهجرة ، وكانت وقعة هوازن يوم حنين في أول شوال من [ ص: 614 ] تلك السنة . و ( حنين ) : موضع معروف ، سمي باسم رجل لازمه ، ويصرف ولا يصرف . وأنشد في الصحاح :
نصروا نبيهم وشدوا أزره بحنين يوم تواكل الأبطال
والأغلب عليه الصرف .
و ( فروة بن نفاثة ) صوابه : بالنون المرفوعة ، والفاء ، والثاء المثلثة . كذا لجميع الرواة . وقد قيده بعضهم : (نباتة) بالنون والباء بواحدة ، والتاء باثنتين من فوقها ، وكأنه تصحيف ، وقد رواه nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=17124معمر عن nindex.php?page=showalam&ids=12300ابن شهاب . فقال : فروة بن نعامة ، والأول أشهر . واختلف في إسلامه . وفي nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : أن مهدي البغلة للنبي -صلى الله عليه وسلم- ملك أيلة ، واسمه فيما ذكره nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق : يحنة بن رؤبة .
وقد اختلف في هذين الحديثين . فمن العلماء من ذهب إلى أن حديث فروة ناسخ للحديث الآخر . ومنهم من رام الجمع بينهما فقال : حيث قبل فإنما قبل استئلافا ، وطمعا في إسلام المهدي ، وحيث رد لم يطمع في [ ص: 615 ] ذلك . وقيل : إنما رد حيث لم تكن فيه مصلحة للمسلمين ، وقيل حيث كان فيه ذلك . وقيل : إنما رد ما أهدي له في خاصة نفسه ، وقبل ما علم منه خلاف ذلك ; قاله nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري . قال : ولا حجة لمن احتج بنسخ أحد الحديثين للآخر ; إذ لم يأت في ذلك بيان . وقيل : إنما قبل هدية أهل الكتاب ; إذ قد أبيح لنا طعامهم ، ورد هدايا المشركين ; إذ لم يبح لنا ذلك منهم . وأشبه هذه الأقوال قول من قال بالاستئلاف والمصلحة . والكل محتمل . والله تعالى أعلم.
وركوبه -صلى الله عليه وسلم- البغلة في ذلك الموطن مبالغة في الثبات ، والصبر ، ويدل على العزم على عدم الفرار كما قد فعل حين انهزم الناس عنه ، وهو مقبل على العدو ، يركض بغلته نحوهم . وقد زاد على ذلك ، كما ذكر في الرواية الأخرى : إنه نزل بالأرض على عادة الشجعان في المنازلة. وهذا كله يدل : على أنه -صلى الله عليه وسلم- كان أشجع الناس وأثبتهم في الحرب ، ولذلك قالت الصحابة رضي الله عنهم : إن الشجاع منا للذي يلوذ بجانبه .
و ( السمرة ) : هي شجرة الرضوان التي بايعه تحتها أصحابه بيعة الرضوان بالحديبية . وكانوا بايعوه على ألا يفروا ، فلما سمعوا النداء ، تذكروا العهد ، فارتجعوا رجعة واحدة ، كرجل واحد ، وهم يلبون النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ولسرعة رجعتهم [ ص: 616 ] واجتماعهم شبههم بعطفة البقر على أولادها . وهذا كله يدل على قربهم من النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ ذاك ، وأن انهزامهم لم يكن إلى بعد ، ولا من جميعهم ، بل المنهزم إنما كان أكثرهم من أهل مكة والطلقاء ، ومن في قلبه مرض ، ولذلك كان بعضهم يقول في حال انهزامه : لا يردهم إلا البحر .
وقوله : ( فاقتتلوا والكفار ) بنصب الراء على أن تكون الواو بمعنى (مع) وهو أولى ; لما يلزم في الأحسن من توكيد الضمير المرفوع حين يعطف عليه .
وقوله -صلى الله عليه وسلم- (هذا حين حمي الوطيس) يجوز في حين البناء على الفتح ; لأنه مضاف إلى جملة مبنية ، ويجوز فيه الضم ، على أن يكون (الحين) خبر المبتدأ ، وهذا على نحو قول الشاعر :
على حين عاتبت المشيب على الصبا ........................
روي بالخفض والفتح . و ( حمي ) : استعر واتقد. و ( الوطيس ) : موضع [ ص: 617 ] وقود النار ، واستعاره هنا لشدة الحرب . وهذا نحو قوله تعالى : كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله [المائدة: 64] وهذه الاستعارة العجيبة لا يعرف من تكلم بها قبل النبي -صلى الله عليه وسلم- من العرب ، ومنه تلقيت فصيرت مثلا في الأمر إذا اشتد ، قاله nindex.php?page=showalam&ids=12585ابن الأعرابي . وقال nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي : الوطيس : الحجارة المحماة . وعلى هذا فهو جمع وطيسة . وقال أبو عمر المطرز : هو التنور . وحينئذ لا يكون جمعا .
ورميه -صلى الله عليه وسلم- في وجوه الكفار بالتراب ، وإصابته أعين جميعهم من أعظم معجزاته ; إذ ليس في قوة البشر إيصال ذلك إلى أعينهم ، ولا يسع كفه ما يعمهم ، وإنما كان ذلك من صنع الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- ، ولذلك قال تعالى : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى [الأنفال: 17] وكذلك قوله : ( انهزموا ورب الكعبة ) قبل وقوع الهزيمة ، هو من معجزاته الخبرية ، فإنه خبر عن الغيب .
وقوله : ( شاهت الوجوه ) - على ما في حديث سلمة - : خبر معناه : الدعاء ; أي : اللهم شوه وجوههم . أو هو : خبر عما يحل بهم من التشويه عند القتل ، والأسر ، والانتقام .