رواه أحمد ( 2 \ 538 )، ومسلم (1780) (84 و 86)، وأبو داود (1572) و (3023).
[ ص: 628 ] (22) ومن باب: ما جاء أن فتح مكة عنوة
قوله : ( كان كل رجل منا يصنع طعاما يوما لأصحابه ، فكانت نوبتي ) ; هذه المناوبة في الطعام كانت منهم على جهة المكارمة ، والمطايبة ، والتبرك بالمؤاكلة والمشاركة فيها ، لا على جهة المعاوضة ، والمشاحة ; ولذلك قال nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة للذي دعاه : (سبقتني) . ففيه ما كان السلف عليه من حسن التودد ، والمزاولة ، والمواصلة ، والمكارمة . و (لو) هي هنا للتمني ; أي : ليتك حدثتنا . و ( أدرك طعامنا ) ; أي : انتهى إلى النضج .
[ ص: 629 ] وقوله : ( وجعل أبا عبيدة على البياذقة ) ; البياذقة : هم الرجالة . وأصله بالفارسية : أصحاب ركاب الملك . وقد رواه بعضهم : (الساقة) وفيها بعد . وبعضهم قال : (الشارفة) ; أي : المشرفة . وهي تصحيف . والأولى هي الصواب . وفي رواية أخرى : (الحسر) مكان ( البياذقة ) وهو جمع حاسر . وهو هنا : الذي لا درع معه . وهذا الوصف صادق على الرجالة ; فإنهم كذلك غالبا .
وقوله : ( وبطن الوادي ) منصوب بفعل مضمر ; أي : وجعل طريقه بطن الوادي ، كما جاء مفسرا في الرواية ، ولا يجوز خفضه ; لأنه يلزم منه أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل أبا عبيدة على سكان بطن الوادي . وذلك غير مراد قطعا .
ونداؤه -صلى الله عليه وسلم- للأنصار خاصة : إما لأن المهاجرين كانوا حضورا معه ، فلم يحتج إلى ندائهم ، وإما ليظهر لهم شدة اعتنائه بهم ، وتعويله عليهم . ويظهر لي : أن اختصاصه بالأنصار في هذا الموضع ، وقوله : (لا يأتيني إلا أنصاري) ; كما جاء في الرواية الأخرى ، إنما كان لأنه وصاهم بقتل من تعرض لهم من قريش ; إذ لا قرابة ، ولا رحم بينهم ، فلا موجب للعطف عليهم ، بخلاف المهاجرين ; فإن بينهم قرابات وأرحاما ، فلا جرم لما سمعت الأنصار أمره مضوا لذلك ، فلم يتعرض لهم أحد إلا أناموه ; أي : قتلوه ، فصيروه كالنائم . والله تعالى أعلم .
و ( أوباش قريش ) : أخلاطهم . وفي الرواية الأخرى : ووبشت قريش أوباشا لها ; أي : جمعت جموعا من قبائل مختلفة . ويقال : أوباش وأوشاب . بمعنى [ ص: 630 ] واحد .
و ( الحصد ) : القطع . وأصله في الزرع ، واستعاره هنا للقتل لما كانت الرءوس والأيدي تقطع فيه .
وقوله : ( وأحفى بيده ووضع يمينه على شماله ) ; كذا صحيح الرواية- بالحاء المهملة- معناه : استأصل ; أي : أشار إلى ذلك . وبعضهم رواه : (وأكفى) - بالكاف- ; أي : مال بيده ، فكأنه - صلى الله عليه وسلم - وضع يمناه على يسراه ، وأمرها عليها مشيرا إلى الاستئصال . والله تعالى أعلم .
وقوله : ( موعدكم الصفا ) ; ظاهره خطابه للأنصار ، فكأنه -صلى الله عليه وسلم- سلك الطريق الأعلى من مكة ، وسلكت الأنصار من أسفلها ، حتى اجتمعوا عند الصفا . و (الموعد) هنا : موضع الوعد ، وقد يأتي كذلك في الزمان ، كقوله تعالى : إن موعدهم الصبح [هود: 81] ويأتي كذلك للمصدر . وهو في كل ذلك مكسور العين .
وقول أبي سفيان : ( أبيدت خضراء قريش ) ; أي : أفنيت وأذهبت . وفي رواية أخرى : (أبيحت) من الإباحة . وكلاهما متقارب . و ( خضراء قريش ) معظمها ، وجموعها .
وقوله : ( لا قريش بعد اليوم) ; أي : لا وجود لقريش بعد هذا . وذلك لما رأى من هول الأمر ، والغلبة ، والقهر ، والاستطالة ، والاستيلاء عليهم .
وهذا الحديث nindex.php?page=showalam&ids=16867لمالك نص: على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخلها عنوة ، وقهرا . وهو [ ص: 631 ] الذي صار إليه جمهور العلماء ، والفقهاء ، nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك وغيره ، ما عدا nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، فإنه قال : فتحت صلحا . وقد اعتذر بعض أصحابه عنه في ذلك بأن قال : أراد nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي بقوله : إنه - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة صلحا ; أي : فعل فيها ما يفعل من صالح . فملكهم أنفسهم ، ومالهم ، وأرضيهم .
قلت : والكل متفقون على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما دخل مكة أمن أهلها ولم يغنمهم ، وترك لهم أموالهم ، وذراريهم ، وأراضيهم ، ولم يجر عليها حكم الغنيمة ، ولا حكم الفيء ، فكان ذلك أمرا خاصا بمكة ، لشرفها ، وحرمتها ، ولا يساويها في ذلك غيرها من البلاد بوجه من الوجوه . والله تعالى أعلم . وقد تقدم الكلام في بيع دور مكة وإجاراتها.
وقول الأنصار : ( أما الرجل فقد أخذته رأفة بعشيرته ، ورغبة في قريته ) ; هذا القول ليس فيه تنقيص ، ولا تصغير ، وإنما هم لما رأوا منه ما يقتضيه خلق الكرام ، وجبلات الفضلاء من الرأفة على العشيرة ، والصغو للوطن ، والحنين له ، خافوا أن يؤثر المقام فيها على المقام بالمدينة ، فحملهم شدة محبتهم له ، وكراهة [ ص: 632 ] مفارقته ، أو مفارقة أوطانهم ، على أن قالوا هذا الكلام ، وقد بينوا عذرهم عن هذا حيث قالوا : ( ما قلناه إلا ضنا برسول الله -صلى الله عليه وسلم - ; أي : بخلا .
وإخباره -صلى الله عليه وسلم- إياهم بما قالوا ، معجزة من معجزاته .
وقوله -صلى الله عليه وسلم- : ( ألا فما اسمي إذا ؟ ) قيل : إنما قال ذلك تنبيها على صدقه لما ظهرت معجزته بإخباره عما غاب عنه ، كما كان يقول عند ظهور الخوارق على يديه : (أشهد أني رسول الله) . وقيل : إنما قال ذلك تنبيها على أن صدق اسمه ( محمد ) عليه يمنعه من نقض العهد ، وترك القيام بحق من له حق ، فكأنه قال : لو فعلت ذلك لما استحققت أن أسمى : محمدا ، ولا : أحمد ; وكلاهما مأخوذ من الحمد . ويدل على صحة هذا التأويل قوله : ( المحيا محياكم ، والممات مماتكم ) ; أي لا أفارقكم حياتي ولا موتي . وبكاء الأنصار إنما كان فرحا وصبابة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
[ ص: 633 ] و ( سية القوس ) : طرفها المنحني . وله سيتان . وقد قال في طريق أخرى : ( بعود في يديه ) ، يريد به القوس .