المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم

أبو العباس القرطبي - ضياء الدين أحمد بن عمر القرطبي

صفحة جزء
3510 [ 1361 ] وعن أنس: أن فتى من أسلم قال: يا رسول الله، إني أريد الغزو ، وليس معي ما أتجهز. قال: "ائت فلانا، فإنه قد كان تجهز فمرض". فأتاه فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرئك السلام ، ويقول: أعطني الذي تجهزت به، قال: يا فلانة، أعطيه الذي تجهزت به، ولا تحبسي عنه شيئا، فوالله لا تحبسن منه شيئا فيبارك الله لك فيه .

رواه مسلم (1894)، وأبو داود (2780).


وقوله : ( إني أبدع بي ) ; أي : أهلكت راحلتي ، وانقطع بي ، وهو رباعي ، مبني لما لم يسم فاعله . وقد وقع لبعض الرواة : (بدع) على فعل مشدد العين . وليس بمعروف في اللغة .

وقوله : ( احملني ) ; أي : أعطني ما أتحمل عليه ، أي : أحمل رحلي ، وأرتحل عليه .

وقوله : ( من دل على خير فله مثل أجر فاعله ) ; ظاهر هذا اللفظ : أن للدال من الأجر ما يساوي أجر الفاعل المنفق . وقد ورد مثل هذا في الشرع كثيرا ; [ ص: 728 ] كقوله : (من قال مثل ما يقول المؤذن كان له مثل أجره) ، وكقوله فيمن توضأ وخرج إلى الصلاة فوجد الناس قد صلوا : (أعطاه الله من الأجر مثل أجر من حضرها ، وصلاها) . وهو ظاهر قوله تعالى : ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله [النساء: 100] وهذا المعنى يمكن أن يقال فيه ، ويصار إليه بدليل : أن الثواب على الأعمال إنما هو تفضل من الله تعالى ، فيهبه لمن يشاء على أي شيء صدر عنه ، وبدليل : أن النية هي أصل الأعمال، فإذا صحت في فعل طاعة فعجز عنها لمانع منع منها فلا بعد في مساواة أجر ذلك العاجز لأجر القادر الفاعل ، أو يزيد عليه ، وقد دل على هذا : قوله -صلى الله عليه وسلم- : (نية المؤمن خير من عمله) ، ولقوله : (إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم ، حبسهم العذر) . وأنص ما في هذا الباب حديث أبي كبشة الأنماري ; الذي قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- : (إنما الدنيا لأربعة نفر : رجل آتاه الله تعالى مالا وعلما ، فهو يتقي فيه ربه ، ويصل به رحمه ، ويعلم لله فيه حقا ، فهذا بأفضل المنازل . ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا ، فهو يقول : لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان ، فهو بنيته ، فأجرهما سواء ، ورجل آتاه الله مالا ، ولم يؤته علما ; [ ص: 729 ] فهو لا يتقي فيه ربه ، ولا يصل فيه رحمه ، ولا يعلم لله فيه حقا ، فهذا بأخبث المنازل . ورجل لم يؤته الله مالا ولا علما ; فهو يقول : لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان ، فهو بنيته ، ووزرهما سواء) .

وقد ذهب بعض الأئمة إلى أن المثل المذكور في هذه الأحاديث إنما هو بغير تضعيف . قال : لأنه يجتمع في تلك الأشياء أفعال أخر ، وأعمال كثيرة من البر ، لا يفعلها الدال الذي ليس عنده إلا مجرد النية الحسنة . وقد قال - صلى الله عليه وسلم- للقاعد : (أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير فله مثل نصف أجر الخارج) ، وقال : (لينبعث من كل رجلين أحدهما والأجر بينهما) .

قلت : ولا حجة في هذا الحديث لوجهين :

أحدهما : إنا نقول بموجبه ، وذلك أنه لم يتناول محل النزاع ، فإن المطلوب إنما هو : أن الناوي للخير المعوق عنه ، له مثل أجر الفاعل من غير تضعيف . وهذا الحديث إنما اقتضى مشاركة ومشاطرة في المضاعف ، فانفصلا .

وثانيهما : أن القائم على مال الغازي ، وعلى أهله نائب عن الغازي في عمل لا يتأتى للغازي غزوه إلا بأن يكفى ذلك العمل ، فصار كأنه يباشر معه الغزو ، [ ص: 730 ] فليس مقتصرا على النية فقط ، بل هو عامل في الغزو ، ولما كان كذلك كان له مثل أجر الغازي كاملا ، وافرا ، مضاعفا ، بحيث إذا أضيف ونسب إلى أجر الغازي كان نصفا له ، وبهذا يجتمع معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- : (من خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا) ، وبين معنى قوله في اللفظ الأول : (فله مثل نصف أجره) ، والله تعالى أعلم .

وعلى هذا يحمل قوله : (والأجر بينهما) لا أن النائب يأخذ نصف أجر الغازي ، ويبقى للغازي النصف ، فإن الغازي لم يطرأ عليه ما يوجب تنقيصا لثوابه ، وإنما هذا كما قال : (من فطر صائما كان له مثل أجر الصائم ، لا ينقصه من أجره شيء) . والله تعالى أعلم .

وعلى هذا فقد صارت كلمة (نصف) مقحمة هنا بين (مثل) و (أجر) وكأنها زيادة ممن تسامح في إيراد اللفظ ، بدليل قوله : (والأجر بينهما) ، ويشهد له ما ذكرناه ، فليتنبه له ، فإنه حسن . وأما من تحقق عجزه ، وصدقت نيته ، فلا ينبغي أن يختلف في : أن أجره مضاعف كأجر العامل المباشر ; لما تقدم ، ولما خرجه النسائي من حديث أبي الدرداء قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (من أتى فراشه ، وهو ينوي أن يقوم يصلي من الليل فغلبته عيناه حتى يصبح ; كان له ما نوى ، وكان نومه صدقة عليه) .

التالي السابق


الخدمات العلمية