قلت: فهؤلاء القوم حصل عندهم أن الانقطاع عن ملاذ الدنيا من النساء والطيب من الطعام والنوم، والتفرغ لاستغراق الأزمان بالعبادات أولى، فلما سألوا عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبادته، لم يدركوا من عبادته ما وقع لهم أبدوا فارقا بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم: بأنه مغفور له. ثم أخبر كل واحد منهم بما عزم على فعله، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أجابهم بأن ألغى الفارق بقوله: nindex.php?page=hadith&LINKID=673964 (إني أخشاكم لله) وتقرير ذلك: إني وإن كنت مغفورا لي فخشية الله وخوفه يحملني على الاجتهاد وملازمة العبادة، لكن طريق العبادة ما أنا عليه، فمن رغب عنه وتركه؛ فليس على طريقي في العبادة.
قلت: ويوضح هذا المعنى ويبينه: أن عبادة الله إنما هي امتثال أوامره الواجبة والمندوبة، واجتناب نواهيه المحظورة والمكروهة، وما من زمان من الأزمان إلا وتتوجه على المكلف فيه أوامر أو نواه، فمن قام بوظيفة كل وقت فقد أدى العبادة، وقام بها. فإذا قام بالليل مصليا: فقد قام بوظيفة ذلك الوقت. فإذا احتاج إلى النوم لدفع ألم السهر، ولتقوية النفس على العبادة، ولإزالة تشويش [ ص: 87 ] مدافعة النوم المشوشة للقراءة، أو لإعطاء الزوجة حقها من المضاجعة: كان نومه ذلك عبادة كصلاته، وقد بين هذا المعنى nindex.php?page=showalam&ids=23سلمان الفارسي nindex.php?page=showalam&ids=4لأبي الدرداء بقوله: لكني أقوم وأنام، وأحتسب في نومتي ما أحتسبه في قومتي. وكذلك القول في الصيام. وأما التزويج فيجري فيه مثل ذلك وزيادة نية تحصين الفرج، والعين، وسلامة الدين، وتكثير نسل المسلمين. وبهذه القصود الصحيحة تتحقق فيه العبادات العظيمة.
ولذلك اختلف العلماء في: أي الأمرين أفضل؟ التزويج أم التفرغ منه للعبادة؟ كما هو معروف في مسائل الخلاف. وعلى الجملة: فما من شيء من المباحات المستلذات وغيرها، إلا ويمكن لمن شرح الله صدره أن يصرفه إلى باب العبادات والطاعات بإخطار معانيها بباله، وقصد نية التقرب بها، كما قد نص عليه المشايخ في كتبهم، nindex.php?page=showalam&ids=15166كالحارث المحاسبي وغيره. ومن فهم هذا المعنى وحصله تحقق: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حل من العبادات أعلاها؛ لانشراح صدره، وحضور قصده، ولعلمه بحدود الله، وبما يقرب منه، ولما لم ينكشف هذا المعنى للنفر السائلين عن عبادته استقلوها بناء منهم على أن العبادة إنما هي استفراغ الوسع في الصلاة، والصوم، والانقطاع عن الملاذ. وهيهات بينهما ما بين الثريا والثرى، وسهيل والسها.
وعند الوقوف على ما أوضحناه من هذا الحديث يتحقق أن فيه ردا على غلاة المتزهدين، وعلى أهل البطالة من المتصوفين ؛ إذ كل فريق منهم قد عدل عن طريقه، وحاد عن تحقيقه.
و (قوله: وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش ) قال nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري بدل هذا الكلام: أما أنا فأصوم ولا أفطر. وهذا المساق أحسن؛ [ ص: 88 ] لأنه صلى الله عليه وسلم أجابهم في الروايتين بقوله: (لكني أصوم وأفطر) ولم يرو فيه nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم جوابا عن الأكل والنوم على الفراش بأكثر من قوله: (لكني أصوم وأفطر) فبقي أكل اللحم، والنوم على الفراش بغير جواب، فكان مساق nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري أولى، والله تعالى أعلم.