(قوله: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طلاق الثلاث واحدة ) وفي الرواية الأخرى: (إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وثلاثا من إمارة nindex.php?page=showalam&ids=2عمر ) وفي الرواية الثالثة: (ألم يكن طلاق الثلاث واحدة، فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد nindex.php?page=showalam&ids=2عمر تتايع الناس في الطلاق فأجازه nindex.php?page=showalam&ids=2عمر عليهم) تمسك بظاهر هذه الروايات شذوذ من أهل العلم، فقالوا: إن طلاق الثلاث في كلمة يقع واحدة؛ وهم: nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس ، وبعض أهل الظاهر . وقيل: هو مذهب محمد بن إسحاق ، nindex.php?page=showalam&ids=15689والحجاج بن أرطاة ، وقيل: عنهما: لا يلزم منه شيء. وهو مذهب مقاتل ، والمشهور عن nindex.php?page=showalam&ids=15689الحجاج بن أرطاة .
وجمهور السلف والأئمة: [ ص: 238 ] أنه لازم واقع ثلاثا، ولا فرق بين أن يوقع مجتمعا في كلمة أو مفرقا في كلمات، غير أنهم اختلفوا في جواز إيقاعه كما قدمناه.
ووجه دلالة هذا النمط: أنه قد حكم بأن وقوع ما يقال عليه طلاق يقتضي منع الزوج مما كان له على الزوجة من التصرف، ويلزمه أحكام أخر لا تكون في حالة الزوجية، ولا يعني بكونه واقعا إلا ذلك، وإيقاع الطلاق ثلاثا يقال عليه طلاق بالاتفاق فتلزم تلك الأحكام. وقد أشبعنا القول في هذه المسألة في جزء كتبناه في هذه المسألة سؤالا وجوابا.
ثم حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس هذا يدل ظاهرا على أنه كان الطلاق ثلاثا واقعا لازما في تلك الأعصار، فيستدل به عليهم على جهة الإلزام، وإن كنا لا نرى التمسك به؛ لما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وعلى الجملة فمذهب هذين الرجلين شاذ الشاذ، [ ص: 239 ] ولا سلف لهم فيه، ولا بعد في أن يقال: إن إجماع السلف على خلافهما - على ما يتبين مما نذكره - بعد عن السلف -، فإنهم كانوا منقسمين إلى من يراه ثلاثا، وإلى من يراه واحدة. والكل متفقون على وقوعه، والله تعالى أعلم.
وأما من ذهب إلى أنه واقع واحدة؛ فهو أيضا فاسد. وقد استدل القائلون به على صحته بثلاثة أحاديث:
أحدها: حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس هذا.
وثانيها: حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر على رواية من روى: أنه طلق امرأته ثلاثا، وأنه صلى الله عليه وسلم أمره برجعتها، واحتسبت له واحدة.
وثالثها: أن أبا ركانة طلق امرأته ثلاثا، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم برجعتها؛ والرجعة تقتضي وقوع واحدة. ولا حجة لهم في شيء من ذلك.
أما حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ؛ فلا يصح به الاحتجاج لأوجه:
أحدها: أنه ليس حديثا مرفوعا للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما ظاهره الإخبار عن أهل عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصر nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر باتفاقهم على ذلك، وإجماعهم عليه، وليس ذلك بصحيح. فأول من خالف ذلك بفتياه nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . فروى nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود من رواية nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد عنه قال: كنت عند nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا. قال: فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم يركب الحموقة، ثم يقول: يا nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ! يا nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ! قال: ومن يتق الله يجعل له مخرجا [الطلاق: 2] وإنك لم تتق الله، فما أجد لك مخرجا، عصيت ربك وبانت منك امرأتك.
وفي "الموطأ" عنه: أن رجلا قال nindex.php?page=showalam&ids=11لابن عباس : إني طلقت امرأتي مائة تطليقة. [ ص: 240 ] فقال له nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : طلقت منك بثلاث، وسبعة وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا.
وقال nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود : قول nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس هو: إن طلاق الثلاث يبين من الزوجة، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، مدخولا بها كانت، أو غير مدخول بها. ونحوه عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ، nindex.php?page=showalam&ids=12وعبد الله بن عمر . وفي "الموطأ": أن رجلا جاء إلى nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ، فقال: إني طلقت امرأتي ثماني تطليقات. قال nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : فماذا قيل لك؟ قال: قيل لي: إنها بانت منك. قال nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : صدقوا، هو كما يقولون؛ فهذا يدل على وجود الخلاف فيها في عصر الصحابة، وأن المشهور عندهم، المعمول به، خلاف مقتضى حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . فبطل التمسك به.
الوجه الثاني: لو سلمنا أنه حديث مسند مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم لما كان فيه حجة؛ لأن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس هو راوي الحديث، وقد خالفه بعمله وفتياه. وهذا يدل على ناسخ ثبت عنده، أو مانع شرعي منعه من العمل. ولا يصح أن يظن به: أنه ترك العمل بما رواه مجانا أو غالطا؛ لما علم من جلالته، وورعه، وحفظه، وتثبته.
قال nindex.php?page=showalam&ids=13332أبو عمر بن عبد البر - بعد أن ذكر عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس فتياه من طرق متعددة بلزوم الطلاق ثلاثا من كلمة واحدة -: ما كان nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ليخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين، إلى رأي نفسه.
ورواية nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس وهم وغلط، لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز، والعراق ، والشام ، والمشرق، والمغرب . وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس .
[ ص: 241 ] الوجه الثالث: لو سلمنا كل ما تقدم؛ لما كان فيه حجة؛ للاضطراب والاختلاف الذي في سنده ومتنه؛ وذلك: أن أبا الصهباء رواه عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس بتلك الألفاظ المختلفة؛ التي وقعت في كتاب nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم كما ذكرناها. وقد روى nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود من حديث nindex.php?page=showalam&ids=12341أيوب ، عن غير واحد، عن nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس : أن رجلا يقال له: أبا الصهباء كان كثير السؤال nindex.php?page=showalam&ids=11لابن عباس . قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وصدرا من خلافة nindex.php?page=showalam&ids=2عمر . فقال nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : بل كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وصدرا من خلافة nindex.php?page=showalam&ids=2عمر ، فلما رأى الناس تتايعوا فيها قال: أجيزوهن عليهم . فقد اضطرب فيه nindex.php?page=showalam&ids=16237أبو الصهباء عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في لفظه كما ترى. وقد اضطرب فيه nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس . فمرة رواه عن أبي الصهباء ، ومرة عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس نفسه. ومهما كثر الاختلاف والتناقض ارتفعت الثقة، لا سيما عند المعارضة على ما يأتي.
ثم العجب: أن nindex.php?page=showalam&ids=17124معمرا روى عن nindex.php?page=showalam&ids=16446ابن طاوس ، عن أبيه: أن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا. فقال له: لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا. وظاهر هذا أنه لا مخرج له من ذلك، وأنها ثلاث. وهذه كرواية الجماعة الكثيرة عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ؛ nindex.php?page=showalam&ids=15992كسعيد بن جبير ، nindex.php?page=showalam&ids=16879ومجاهد ، nindex.php?page=showalam&ids=16568وعطاء ، nindex.php?page=showalam&ids=16705وعمرو بن دينار ، ومحمد بن إلياس بن البكير ، والنعمان بن أبي عياش ، كلهم روى عنه: أنه ثلاث، وأنها لا تحل له إلا من بعد زوج.
الوجه الرابع: لو سلمنا سلامته من الاضطراب لما صح أن يحتج به؛ لأنه يلزم منه ما يدل على أن أهل ذلك العصر الكريم كانوا يكثر فيهم إيقاع المحرمات والتساهل فيها، وترك الإنكار على من يرتكبها. وبيان اللزوم: أن ظاهره أن [ ص: 242 ] أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقع الطلاق الثلاث كثيرا منهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر ، وسنتين من خلافة nindex.php?page=showalam&ids=2عمر ، أو ثلاث، ويستفتون علماءهم فيفتونهم بأنه واحدة، ولا ينكرون عليهم. مع أن الطلاق ثلاثا في كلمة واحدة محرم بدليل قول nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ، للمطلق ثلاثا: (بانت منك، وعصيت ربك). وبدليل ما رواه nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، عن nindex.php?page=showalam&ids=17053محمود بن لبيد - قال nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : له صحبة - قال: nindex.php?page=hadith&LINKID=669609أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان، ثم قال: (أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟) هذا يدل على أنه محرم، ومنكر. فكيف يكثر فيهم العمل بمثل هذا، ولا ينكرونه؟ ! هذا محال على قوم وصفهم الله تعالى بقوله: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر [آل عمران: 110] إلى غير ذلك مما وصفهم الله تعالى به. لا يقال: هذا يبطل بما وقع عندهم من الزنا، والسرقة، وغير ذلك من الأسباب التي ترتبت عليها الأحكام؛ لأنا نقول: هذه لما وقعت أنكروا تلك الأمور، وأقاموا الحدود فيها، ولم يفعلوا ذلك فيما ذكرناه، فافترقا، وصح ما أبديناه.
فإن قيل: لعل تحريم ذلك لم يكن معلوما عندهم. قلنا: هذا باطل. فإنهم أعرف بالأحاديث ممن بعدهم. وقد ذكرنا ما روي في ذلك عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر ، والله تعالى أعلم.
الوجه الخامس: إن ظاهر ذلك الحديث خبر عن جميعهم أو عن معظمهم، والعادة تقتضي - فيما كان هذا سبيله - أن يفشو، وينتشر، ويتواتر نقله، وتحيل أن ينفرد به الواحد. ولم ينقله عنهم إلا nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، ولا عنه إلا nindex.php?page=showalam&ids=16237أبو الصهباء .
وما رواه nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في الأصل قد رواه nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود عن nindex.php?page=showalam&ids=16248طاوس عن أبي الصهباء ، عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . ولو رواه عنه لم يخرج بروايته عنه عن كونه خبر واحد غير [ ص: 243 ] مشهور. وهذا الوجه يقتضي القطع ببطلان هذا الخبر. فإن لم يقتض ذلك؛ فلا أقل من أن يفيدنا الريبة فيه والتوقف، والله تعالى أعلم.
الوجه السادس: تطرق التأويل إليه. ولعلمائنا فيه تأويلان:
أحدهما: ما قاله بعض البغداديين: إن معناه الإنكار على من يخرج عن سنة الطلاق بإيقاع الثلاث، والإخبار عن تساهل الناس في مخالفة السنة في الزمان المتأخر عن العصرين السابقين، فكأنه قال: كان الطلاق الموقع الآن ثلاثا في ذينك العصرين واحدة، كما يقال: كان الشجاع الآن جبانا في عصر الصحابة. وكان الكريم الآن بخيلا في ذلك الوقت. فيفيد تغير الحال بالناس.
وثانيهما: قال غير البغداديين: المراد بذلك الحديث من تكرر الطلاق منه، فقال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فإنها كانت عندهم محمولة في القدم على التأكيد. فكانت واحدة. وصار الناس بعد ذلك يحملونها على التجديد، فألزموا ذلك لما ظهر قصدهم إليه. ويشهد بصحة هذا التأويل قول nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. وقد تأوله غير علمائنا على أن ذلك كان في المطلقة قبل الدخول، كما دل عليه حديث nindex.php?page=showalam&ids=11998أبي داود ؛ الذي تقدم ذكره، وأبدى بين المدخول بها وغيرها فرقا. فقال: إنما جعلوه في غير المدخول بها واحدة؛ لأنها تبين بها، وكأن هؤلاء أشاروا إلى أن قوله لغير المدخول بها: أنت طالق. قد أبانها، وبقي قوله: ثلاثا. لم يصادف محلا، فأجروا المتصل مجرى المنفصل. وهذا ليس بشيء؛ فإن قوله: أنت طالق ثلاثا. كلام واحد متصل غير منفصل. ومن المحال البين إعطاء الشيء حكم نقيضه، وإلغاء بعض الكلام الواحد. وأشبه هذه التأويلات الثاني على ما قررناه، والله تعالى أعلم.
هذا الكلام على حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس .
فهذا اضطراب في الاسم والفعل. ولا يحتج بشيء من مثل هذا، فقد ظهر وتبين: أنهم لا حجة لهم في شيء مما تمسكوا به. فأما حجة الجمهور: فالتمسك بالقاعدة المقررة: أن المطلقة ثلاثا، لا تحل لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره. ولا فرق بين مفرقها ومجموعها؛ إذ معناهما واحد لغة وشرعا. وما يتخيل من الفرق بينهما فصوري؛ ألغاه الشرع قطعا في النكاح، والعتق، والإقرار. فلو قال الولي للخاطب في كلمة واحدة: أنكحتك هؤلاء الثلاث، فقال: قبلت. لزم النكاح، كما إذا قال: أنكحتك هذه، [ ص: 245 ] وهذه، وهذه. وكذلك في العتق، والإقرار. فكذلك الطلاق. وقد ذكر nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني جملة من الأحاديث المرفوعة عن nindex.php?page=showalam&ids=8علي ، nindex.php?page=showalam&ids=63وعبادة بن الصامت ، وحفص بن المغيرة ، nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر كلها تقتضي البينونة، وأنها لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. ولم يفرق فيها بين المدخول بها وغيرها. رأينا ألا نطول بذكرها، ولا بذكر أسانيدها. وفيما ذكرناه كفاية، والله تعالى الموفق للهداية، وإنما أطنبنا في الكلام على حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس لأن كثيرا من الجهال اغتروا به، فأحلوا ما حرم الله، فافتروا على الله، وعلى كتابه، ورسوله، ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا، وعدل عن سبيله.
وقول nindex.php?page=showalam&ids=2عمر : ( إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ) أي: مهلة، وسعة بانتظار الرجعة. وهذا يدل على صحة التأويل الثاني كما ذكرناه.