[ ص: 441 ] (61) ومن باب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن أدخل النار من الموحدين
(قوله : " فيقال : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها " إلى أن قال : " أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان ") اختلف الناس في هذا الإيمان المقدر بهذه المقادير ، فمنهم من قال : هو اليقين ، ورأى أن العلم يصح أن يقال فيه : إنه يزيد باعتبار توالي أمثاله على قلب المؤمن ، وباعتبار دوام حضوره ، وأنه ينقص بتوالي الغفلات على قلب المؤمن . [ ص: 442 ] وهذا معقول ، غير أن حمل هذا الحديث عليه فيه بعد ; لما جاء من حديث nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد ، حيث قال الشافعون : " nindex.php?page=hadith&LINKID=856106لم نذر فيها خيرا " ; مع أنه تعالى مخرج بعد ذلك جموعا كثيرة ممن يقول : لا إله إلا الله وهم مؤمنون قطعا ، ولو لم يكونوا مؤمنين ، لما خرجوا بوجه من الوجوه ، ولذلك قال تعالى : " لأخرجن من قال لا إله إلا الله " . وعن إخراج هؤلاء عبر بقوله : " nindex.php?page=hadith&LINKID=855938فيقبض قبضة فيخرج قوما لم يعملوا خيرا قط " ، فإذا الأصح في تأويل هذا الحديث أن يكون الإيمان هنا أطلق على أعمال القلوب ، كالنية والإخلاص والخوف والنصيحة وشبه ذلك من أعمال القلوب ، وسماها إيمانا ; لكونها في محل الإيمان أو عن الإيمان ، على عادة العرب في تسمية الشيء باسم الشيء إذا جاوره ، أو كان منه بسبب . وإنما قلنا : أراد به أعمال القلوب هنا دون أعمال الأبدان ، لقوله : " من كان في قلبه " و " وجدتم في قلبه " فخصه بالقلب ، ولا جائز أن يكون التصديق على ما تقدم ، فتعين ما قلناه ، والله أعلم . وذكر الحبة ونصفها والمثقال ونصفه وأدنى من ذلك ، هي كلها عبارات عن كثرة تلك الأعمال وقلتها .
[ ص: 443 ] و (قوله : " وعزتي وكبريائي وعظمتي ") العزة : القوة والغلبة ، ومنه : وعزني في الخطاب [ ص : 23 ] ; أي : غلبني ، ويقال أيضا : عز الشيء إذا قل ، فلا يكاد يوجد مثله ، يعز عزا وعزازة ، وعز يعز عزة ، إذا صار قويا بعد ضعف وذلة ، فعزة الله تعالى قهره للجبابرة وقوته الباهرة ، وهو مع ذلك عديم المثل والنظير : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ الشورى : 11 ] .
وأما " الكبرياء " و " الكبر " ، فكلاهما مصدر كبر في نفسه يكبر ، وأصله من كبر السن أو كبر الجرم ، لكن صار ذلك بحكم عرف الاستعمال عبارة عن حصول كمال الذات يستلزم ترفيعا لها على الغير . ومن هاهنا كان الكبر قبيحا ممنوعا في حقنا ، واجبا في حق الله تعالى . وبيانه : أن الكمال الحقيقي المطلق لا يصح إلا لله تعالى ، وكمال غيره إنما هو عرض نسبي ، فإذا وصف الحق نفسه بالكبر ونسبه إليه ، كانت النسبة حقيقة في حقه ; إذ لا أكمل منه ولا أرفع ، فكل كامل ناقص ، وكل رفيع محتقر بالنسبة إلى كماله وجلاله . والعظمة بمعنى الكبرياء ، غير أنها لا تستدعي غيرا يتعاظم عليه كما يستدعيه الكبر على ما بينا ، وأيضا فقد يستعمل الكبير فيما لا يستعمل فيه العظيم ، فيقال : فلان كبير السن ، ولا يقال : عظيم السن .
و (قوله : " وجبريائي " بكسر الجيم ، فمعناه : بجبروتي ، والجبار : العظيم [ ص: 444 ] الشأن الممتنع على من يرومه ، ومنه نخلة جبارة إذا فاقت الأيدي طولا ، يقال منه . جبار بين الجبرية والجبروت ، ولم يأت فعال من أفعلت إلا جبار من أجبرت ، ودراك وستار . و " الجبروت " أيضا للمبالغة بزيادة التاء ، مثل ملكوت ورحموت ورهبوت من الملك والرحمة والرهبة .
وجاء " جبريائي " هنا لمطابقة كبريائي ، كما قالوا . هو يأتينا بالغدايا والعشايا . وقيل في معنى الجبار ; أي : المصلح ، من قولهم : جبرت العظم ، وذلك أنه تعالى يجبر القلوب المنكسرة من أجله ، ويرحم عباده ، ويسد خلاتهم .