(قوله: أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه ) العمرى في اللغة: هي أن يقول الرجل للرجل: هذه الدار لك عمري أو عمرك. وأصلها من العمر؛ قاله أبو عبيد . وقال غيره: أعمرته الدار جعلتها له عمره. وقال الحربي : سمعت nindex.php?page=showalam&ids=12585ابن الأعرابي يقول: لم يختلف العرب أن هذه الأشياء على ملك أربابها: العمرى، والرقبى، والسكنى، والإطراق، والمنحة، والعرية، والعارية، والأفقار. ومنافعها لمن جعلت له.
قلت: وعلى هذا: فالعمرى الواردة في الحديث حقها أن تحمل على هذا. فتكون: تمليك منافع الرقبة مدة عمر من قيدت بعمره، فإن لم يذكر عقبا؛ فمات المعمر رجعت إلى الذي أعطاها ولورثته. فإن قال: هي لك ولعقبك؛ لم ترجع إلى الذي أعطاها إلا أن ينقرض العقب.
[ ص: 593 ] وعلى هذا: فيكون الإعمار بمعنى الإسكان؛ إذا قيده بالعمر، غير أن الأحاديث التي جاءت في هذا الباب تقتضي بحكم ظاهرها أنها تمليك الرقبة على ما هي مسرودة في الأصل، فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
أحدها: ما تقدم، وهي أنها تمليك منافع الرقبة. وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=14946القاسم بن محمد ، nindex.php?page=showalam&ids=17368ويزيد بن قسيط ، nindex.php?page=showalam&ids=15124والليث بن سعد ، وهو مشهور مذهب nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك ، وأحد قولي nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . وقال nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك : وللمعمر أن يكريها ولا يبعد، وله أن يبيعها من الذي أعطاها، لا من غيره.
وثانيها: أنها تمليك الرقبة ومنافعها، وهي هبة مبتولة. وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ، nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ، وأصحابهما، nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري ، والحسن بن حي ، nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل ، nindex.php?page=showalam&ids=16438وابن شبرمة ، وأبي عبيد ؛ قالوا: من أعمر رجلا شيئا حياته فهو له حياته، وبعد وفاته لورثته؛ لأنه قد ملك رقبتها. وشرط المعطي الحياة أو العمر باطل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أبطل شرطه، وجعلها بتلة. وسواء قال: هي لك حياتك، أو: هي لك ولعقبك بعدك.
وثالثها: إن قال: عمرك؛ ولم يذكر العقب كان كالقول الأول. وإن قال: هي لك ولعقبك؛ كان كالقول الثاني. وبه قال nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري ، nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور ، nindex.php?page=showalam&ids=12031وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، nindex.php?page=showalam&ids=12493وابن أبي ذئب ، وقد روي عن nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك . وهو ظاهر قوله في "موطأ" يحيى بن يحيى .
فأهل القول الأول تمسكوا بأصل اللغة، وعضدوا ذلك بما رواه ابن القاسم عن nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك قال: رأيت محمدا وعبد الله ابني أبي بكر بن محمد بن عمرو [ ص: 594 ] ابن حزم ، وعبد الله يعاتب محمدا - وهو يومئذ قاض - يقول له: ما لك لا تقضي بحديث nindex.php?page=showalam&ids=12300ابن شهاب في العمرى؟ فقال: يا أخي ! لم أجد الناس عليه، وأباه الناس. قال nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك : ليس عليه العمل، ولوددت: أنه محي. وعضدوه أيضا بأن قالوا: الأصل بقاء ملك المعطي للرقبة بإجماع، ولم يرد قاطع بإخراجه عن يده قبل الإعمار، وتأولوا جميع تلك الظواهر الواردة في الباب.
وأما أهل القول الثاني: فظواهر الأحاديث معهم، غير أنهم لا يسلم لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطل شرط العمر؛ لأنه لو أبطله لبطلت العمرى بالكلية، ولامتنع إطلاق ذلك الاسم عليها، ولم تبطل؛ لأن الأصل في شروط المسلمين صحتها وبقاؤها بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: nindex.php?page=hadith&LINKID=3502835 (المسلمون على شروطهم) ذكره nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود وغيره عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة .
فإن قيل: هذا من الشروط التي قد أبطلها الشرع بقوله: nindex.php?page=hadith&LINKID=652023 (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)، قلنا: لا نسلم: أنه ليس في كتاب الله؛ لأن كتاب الله هنا يراد به: حكم الله؛ بدليل السبب الذي خرج عليه الحديث المتقدم. وقد تقدم في العتق. ثم يلزم على هذا إبطال المنحة، والإفقار، والعارية، فإنها كلها عطايا بشروط، وليست كذلك باتفاق. فإن قيل: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه nindex.php?page=showalam&ids=12493ابن أبي ذئب في "موطئه" من حديث nindex.php?page=showalam&ids=36جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قضى فيمن أعمر عمرى له ولعقبه: فهي بتلة لا يجوز للمعطي فيها شرط، ولا مثوبة. وهذا صريح في إبطال الشرط. فالجواب: إنا لا نسلم: أن هذا الشرط المنهي عنه هو نفس الإعمار في قوله: هي لك عمرك؛ لأنه لو كان كذلك لبطلت حقيقة العمرى، كما قلناه، ولأنه لو بطل ذلك لبطل قول المعطي: هي لك سنة من عمرك، ولم يبطل بالاتفاق، فلا تبطل. والجامع بين الصورتين: أن كل واحد منهما إعطاء ذكر فيه العمر. وقد قال [ ص: 595 ] nindex.php?page=showalam&ids=14946القاسم بن محمد : ما أدركت الناس إلا وهم على شروطهم في أموالهم. ومما يتمسكون به قوله صلى الله عليه وسلم: (لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) فقد صيرها ملكا؛ لأنه لا يورث عن الإنسان إلا ما كان يملك. ويجابون عن ذلك: بأن اللفظ ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من قول nindex.php?page=showalam&ids=12031أبي سلمة بن عبد الرحمن ؛ كما قد رواه nindex.php?page=showalam&ids=12493ابن أبي ذئب عن nindex.php?page=showalam&ids=12300ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، وذكر الحديث المتقدم، فلما فرغ قال: قال nindex.php?page=showalam&ids=12031أبو سلمة : (لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) . ولئن سلم ذلك؛ فإنما جاء ذلك من حيث ذكر العقب، فيكون فيه حجة لأهل القول الثالث، لا للثاني.
وأما أهل القول الثالث، فكأنهم أعملوا الاسم فيما لم يذكر فيه العقب، وتركوا مقتضاه، حيث منع منه الشرع. وكأنهم جمعوا بين الاسم والأحاديث التي في الباب. وقد شهد لصحة هذا رواية من قال عن nindex.php?page=showalam&ids=36جابر : إنما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك. فأما إذا قال: هي لك ما عشت: فإنها ترجع إلى صاحبها. قال: وبه كان nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري يفتي. ثم ما ورد من الروايات مطلقا فإنه مقيد بهذا الحديث. غير أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم انتهى عند قوله: (هي لك ولعقبك) وما بعده من كلام nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري ، على ما قاله nindex.php?page=showalam&ids=14327محمد بن يحيى الذهلي . وهو مما انفرد به nindex.php?page=showalam&ids=17124معمر عن nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري . وخالفه في ذلك سائر من رواه عن nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري من الأئمة الحفاظ، nindex.php?page=showalam&ids=15124كالليث ، nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك ، وابن أخي nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري ، nindex.php?page=showalam&ids=12493وابن أبي ذئب . ولم يذكروا ذلك.
قلت: والذي يظهر لي، وأستخير الله في ذكره: أن حديث nindex.php?page=showalam&ids=36جابر في العمرى رواه عنه جماعة، واختلفت ألفاظهم اختلافا كثيرا، ثم رواه عن كل واحد من تلك الجماعة قوم آخرون. واختلفوا كذلك. ثم كذلك القول في الطبقة الثالثة. وخلط فيه بعضهم بكلام النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس منه، فاضطرب، فضعفت الثقة به، مع ما ينضاف إلى ذلك من مخالفته للأصل المعلوم المعمول به: من أن الناس على شروطهم [ ص: 596 ] في أموالهم، كما قال nindex.php?page=showalam&ids=14946القاسم بن محمد ، وكما دل عليه الحديث المتقدم في الشروط. وينضاف إلى ذلك: أن الناس تركوا العمل به؛ كما قال محمد بن أبي بكر . فتعين تركه، كما قال nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك : ليته محي. ووجب التمسك بأصل وضع العمرى، كما تقدم، وبالأصل المعلوم من الشريعة: من أن الناس على ما شرطوه في أعطياتهم. وهذا القول الأول، وليس على غيره معول. وإذا تقرر ذلك فلنبين وجه رد تلك الروايات إلى ما قررناه.
فأما قوله: ( وإنها لا ترجع إلى صاحبها، من أجل: أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) . فيعني به: أنه لما جعلها للعقب؛ فالغالب أن العقب لا ينقطع، فلا تعود لصاحبها لذلك.
وأما قوله: (وقعت فيه المواريث) فإن سلمنا أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم فمعناه - والله أعلم -: أنها لما كانت تنتقل للعقب بحكم تلقيهم عن مورثهم، ويشتركون في الانتفاع بها أشبهت المواريث، فأطلق عليها ذلك.
[ ص: 597 ] وأما قوله: (أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها) فإنه من باب الإرشاد إلى الأصلح؛ لأن الإعمار يمنع المالك من التصرف فيما يملك رقبته آمادا طويلة، لا سيما إذا قال: هي لك ولعقبك؛ فإن الغالب: أنها لا ترجع إليه، كما قررناه. ولا يصح حمل هذا النهي على التحريم؛ لأنه قد قال في الرواية الأخرى: ( العمرى جائزة لمن وهبت له ) أي: عطية جائزة، ولأنها من أبواب البر، والمعروف، والرفق. فلا يمنع منه. وقول nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : لا تحل العمرى ولا الرقبى؛ محمول على ذلك، فإنه قال إثر ذلك: فمن أعمر شيئا فهو له، ومن أرقب شيئا فهو له. فقد جعلهما طريقين للتمليك. فلو كان عقدهما حراما كسائر العقود المحرمة لأمر بفسخهما.
وأما قوله: (فهي للذي أعمرها حيا وميتا) فيعني بذلك: إذا قال: هي لك ولعقبك؛ فإنه ينتفع بها في حياته، ثم ينتقل نفعها إلى عقبه بعد موته. وهذه الرواية وإن وقعت هنا مطلقة؛ فهي مقيدة بالروايات الأخر التي ذكر فيها العقب، لا سيما والراوي واحد، والقضية واحدة. فيحمل المطلق منها على المقيد قولا واحدا، كما قررناه في الأصول.
و (قوله: إنما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يقول: هي لك ولعقبك ؛ أي: أمضى جوازها وألزمه دائما على ما ذكرناه.
[ ص: 598 ] و (قوله: وأما إذا قال: فهي لك ما عشت ) فإنها ترجع إلى صاحبها، فإن كان من قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو نص فيما اخترناه. وإن كان من قول الراوي؛ فهو أقعد بالحال، وأعلم بالمقال.
تنبيه: القائلون: بأن العمرى تمليك الرقبة؛ فرقوا بينها وبين السكنى. فلو قال: أسكنتك حياتك. فإذا مات رجعت إلى صاحبها. إلا nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي : فإنه سوى بينهما، وقال في السكنى: لا ترجع إلى صاحبها بوجه. وهو شاذ لا يعضده نظر، ولا خبر. فإن العمرى عند القائلين: بأنها تمليك الرقبة، خارجة عن القياس. وإنما صاروا إليه من جهة ظواهر الأخبار، فلا تقاس السكنى عليها؛ لأن الخارج عن القياس لا يقاس عليه كما قررناه في الأصول. ولا خبر فيه، فلا يصار إليه. والله تعالى أعلم.