فإن قيل: فقد حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - على القاتل في هذا الحديث من غير إثبات ولاية المدعي.
فالجواب: إن ذلك كان معلوما عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وعند غيره، فاستغنى عن إثباته لشهرة ذلك.
وفيه: استقرار المدعى عليه بعد سماع الدعوى لإمكان إقراره، فتسقط وظيفة إقامة البينة عن المدعي، كما جرى في هذا الحديث.
و(قوله: لو لم يعترف أقمت عليه البينة ) بيان أن الأصل في ثبوت الدماء الإقرار أو البينة. وأما القسامة: فعلى خلاف الأصل، كما تقدم; وفيه: استقرار المحبوس، والمتهدد، وأخذه بإقراره. وقد اختلف في ذلك العلماء، واضطرب [ ص: 53 ] المذهب عندنا في إقراره بعد الحبس والتهديد، هل يقبل جملة أو لا يقبل جملة؟ والفرق (فيقبل إذا عين ما اعترف به من قتل، أو سرقة، ولا يقبل إذا لم يعين) ثلاثة أقوال.
و(قوله: ما لي مال إلا كسائي وفأسي ) فيه من الفقه: أن المال يقال على كل ما يتمول من العروض وغيرها، وأن ذلك ليس مخصوصا بالإبل، ولا بالعين. وقد تقدم ذلك.
و(قوله: فرمى إليه النبي صلى الله عليه وسلم بنسعته وقال: دونك صاحبك ) أي: خذه فاصنع به ما شئت، هذا إنما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تحقق السبب، وتعذر عليه الإصلاح، وبعد أن عرض على الولي العفو فأبى، كما قاله ابن أشوع ، وبعد أن علم أنه لا مستحق للدم إلا ذلك الطالب خاصة، ولو كان هناك مستحق آخر لتعين استعلام ما عنده من القصاص أو العفو.
و(قوله: فانطلق به، فلما ولى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن قتله فهو مثله ) ظاهره: إن قتله كان عليه من الإثم مثل ما على القاتل الأول، وقد صرح بهذا في الرواية الأخرى التي قال فيها: (القاتل والمقتول في النار) وهذا فيه إشكال عظيم.
[ ص: 55 ] فإن القاتل الأول قتل عمدا، والثاني يقتل قصاصا، ولذلك لما سمع الولي ذلك قال: (يا رسول الله! قلت ذلك؟! وقد أخذته بأمرك).
فاختلف العلماء في تأويل هذا على أقوال:
الأول: قال الإمام nindex.php?page=showalam&ids=15140أبو عبد الله المازري : أمثل ما قيل فيه: أنهما استويا بانتفاء التباعة عن القاتل بالقصاص.
قلت: وهذا كلام غير واضح. ويعني به - والله أعلم -: أن القاتل إذا قتل قصاصا لم يبق عليه تبعة من القتل. والمقتص لا تبعة عليه; لأنه استوفى حقه، فاستوى الجاني والولي المقتص في أن كل واحد منهما لا تبعة عليه.
الثاني: قال nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض : معنى قوله: (فهو مثله) أي: قاتل مثله، وإن اختلفا في الجواز والمنع، لكنهما اشتركا في طاعة الغضب، وشفاء النفس، لا سيما مع رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في العفو، على ما جاء في الحديث.
قلت: والعجيب من هذين الإمامين: كيف قنعا بهذين الخيالين ولم يتأملا مساق الحديث، وكأنهما لم يسمعا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين انطلق به يجره ليقتله: ( القاتل والمقتول في النار )وهذه الرواية مفسرة لقوله في الرواية المتقدمة: ( إن قتله فهو مثله ) [لأنها ذكرت بدلا منها، فعلى مقتضى قوله: (فهو مثله) أي: هو في النار مثله] ومن هنا عظم الإشكال.
ولا يلتفت لقول من قال: إن ذلك إنما قاله - صلى الله عليه وسلم - للولي لما علمه منه من معصية يستحق بها دخول النار; لأن المعصية المقدرة إما أن يكون لها مدخل في هذه القصة، أو لا مدخل لها فيها، فإن كان [ ص: 56 ] الأول فينبغي لنا أن نبحث عنها حتى نتبينها ونعرف وجه مناسبتها لهذا الوعيد الشديد، وإن لم يكن لها مدخل في تلك القضية لم يلق بحكمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا ببلاغته، ولا ببيانه، أن يذكر وعيدا شديدا في قضية ذات أحوال وأوصاف متعددة، ويقرن ذلك الوعيد بتلك القصة، وهو يريد أن ذلك الوعيد إنما هو لأجل شيء لم يذكره هو، ولا جرى له ذكر من غيره.
ثم إن المقول له ذلك قد فهم أن ذلك إنما كان لأمر جرى في تلك القصة، ولذلك قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: تقول ذلك، وقد أخذته بأمرك؟! ولو كان كما قاله هذا القائل لقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما قلت ذلك للمعصية التي فعلت، أو الحالة التي أنت عليها، لا لهذا، ولما كان يسكت عن ذلك، ولبادر لبيانه في تلك الحال; لأن الحاجة له داعية، والنصيحة والبيان واجبان عليه - صلى الله عليه وسلم - والله تعالى أعلم.
وهذا - على ما فيه من التكلف - يبطله قوله: ( القاتل والمقتول في النار ) فسوى بينهما في الوعيد، فلو كان القاتل مخطئا لما استحق بذلك النار، ولما باء بإثمه وإثم صاحبه; فإن المخطئ لا يكون آثما، ولا يتحمل إثم من أخطأ عليه.
فهذا المساق يفهم منه صحة قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - لتخليص ذلك القاتل، وتأكد شفاعته له في العفو، أو قبول الدية. فلما لم يلتفت الولي إلى ذلك كله صدرت منه - صلى الله عليه وسلم - تلك الأقوال الوعيدية مشروطة باستمراره على لجاجه، ومضيه على جفائه، فلما سمع الولي ذلك القول عفا وأحسن، فقبل، وأكرم.
وهذا أقرب من تلك التأويلات والله أعلم بالمشكلات.
وهذا الذي أشار إليه ابن أشوع حيث قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله أن يعفو فأبى.
و(قوله: أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك ؟) أي: ينقلب، ويرجع، وأكثر ما يستعمل: (باء بكذا) في الشر، ومنه قوله تعالى: فباءوا بغضب على غضب [البقرة: 90] ويعني بذلك - والله تعالى أعلم -: أن المقتول ظلما تغفر له ذنوبه عند قتل القاتل له، والولي يغفر له عند عفوه عن القاتل، فصار ذهاب ذنوبهما بسبب القاتل، فلذلك قيل عنه: إنه باء بذنوب كل واحد منهما، هذا أحسن ما قيل فيه. والله تعالى أعلم.
و(قوله: ألك شيء تؤديه عن نفسك ) يفيد: أنه لو حضرت الدية لدفعت للولي، ولسقط القصاص لكن برضى الولي، ولا يجبر على أخذها; لأن الذي للولي القصاص أو التخيير، وهو حقه، ولا يختلف في هذا، وإنما اختلف في إجبار القاتل على إعطاء الدية إذا رضي بها الولي، فذهب جماعة إلى إجباره عليها; منهم: nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وغيره على ما تقدم في كتاب الحج. وقالت طائفة أخرى: لا يجبر عليها، ولا يكون ذلك إلا برضا القاتل والولي، وإليه ذهب الكوفيون. وهو مشهور مذهب nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك وسبب هذا الخلاف معارضة السنة للقرآن؛ وذلك أن ظاهر القرآن وجوب القصاص، وهو قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى [البقرة: 178] وقوله: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس [المائدة: 45] وقد ثبت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: nindex.php?page=hadith&LINKID=675828 (من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين، [ ص: 59 ] بين أن يأخذوا العقل وبين أن يقتلوا)، وهذا نص في التخيير، وبيان الأرجح يستدعي تطويلا، وبسطه في كتب الخلاف.