قوله: ( أحب الكلام إلى الله أربع ) أي: أحقه قبولا، وأكثره ثوابا، ويعني بالكلام: المتضمن للأذكار، والدعاء، والقرب من الكلام، وإنما كانت هذه الكلمات كذلك; لأنها تضمنت تنزيهه عن كل ما يستحيل عليه، ووصفه بكل ما يجب له من أوصاف كماله، وانفراده بوحدانيته، واختصاصه بعظمته وقدمه المفهومين من أكبريته. ولتفصيل هذه الجمل علم آخر.
و(قوله: لا يضرك بأيهن بدأت ) يعني: أن تقديم بعض هذه الكلمات على بعض لا ينقص ثوابها، ولا يوقف قبولها; لأنها كلها كلمات جامعات طيبات مباركات.
و(قوله: لا تسمين غلامك يسارا، ولا رباحا، ولا نجيحا، ولا أفلح ) هذا نهي صحيح عن تسمية العبد بهذه الأسماء، لكنه على جهة التنزيه بدليل قول nindex.php?page=showalam&ids=36جابر [ ص: 462 ] في الحديث الآتي: أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينهى أن يسمى بمقبل، وببركة، وبأفلح، وبيسار، وبنافع، ونحو ذلك، ثم سكت; يعني: أراد أن ينهى عن ذلك نهي تحريم، وإلا فقد صدر النهي عنه على ما تقدم، لكنه على وجه الكراهة التي معناها: أن ترك المنهي عنه أولى من فعله; لأن التسمية بتلك الأسماء تؤدي إلى أن يسمع ما يكرهه، كما نص عليه بقوله: ( فإنك تقول: أثم هو فلان، فلا يكون; فتقول: لا ).
وبالنظر إلى هذا المعنى، فلا تكون هذه الكراهة خاصة بالعبيد، بل: تتعدى إلى الأحرار. ولا مقصورة على هذه الأربعة الأسماء، بل تتعدى إلى ما في معناها؛ ولهذا أشار nindex.php?page=showalam&ids=36جابر في حديثه بقوله، وبنحو ذلك.
وحينئذ يقال: فما فائدة تخصيص الغلام بالذكر؟ وكيف يعدى إلى زيادة على الأربع، وقد قال في بقية الحديث: إنما هي أربع، فلا تزيدن علي؟ فالجواب عن الأول من وجهين:
أحدهما: أنا لا نسلم أن المراد بالغلام العبد، بل الصغير; فإنه يقال عليه: غلام إلى أن يبلغ، وللأنثى: جارية، كما تقدم.
والثاني: أنا وإن سلمنا ذلك لكن إنما خصص العبد بالذكر؛ لأن هذه الأسماء إنما كانت في غالب الأمر أسماء لعبيدهم، فخرج النهي على الغالب.
والجواب عن الثاني: أن قوله: فلا تزيدن علي إنما هو من قول nindex.php?page=showalam&ids=24سمرة بن جندب ، وإنما قال ذلك ليحقق: أن الذي سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هي الأربع، لا زيادة عليها; تحقيقا لما سمع، ونفيا لأن يقول ما لم يقل. ولئن سلم أن ذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس معناه المنع من القياس، بل عن أن يقول اسما لم يقله، فإن [ ص: 463 ] الفرع ملحق بأصله في الحكم، لا في القول.
وبيانه: إنا وإن ألحقنا الزبيب بالتمر في تحريم الربا فلا نقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الربا في الزبيب حرام. فإنه قول كاذب، ولو كان ذلك صادقا لكان الزبيب منطوقا به، فحينئذ لا يكون فرعا. بل: أصلا. وقد اجترأت طائفة عراقية على إطلاق ذلك. ونعوذ بالله مما أطلق هنالك.
وعلى ما قررناه فلا يكون بين حديث nindex.php?page=showalam&ids=24سمرة بن جندب ولا بين حديث nindex.php?page=showalam&ids=36جابر - رضي الله عنهم - معارضة، فلا يكون بينهما نسخ، خلافا لمن زعمه، وقال: إن حديث nindex.php?page=showalam&ids=36جابر ناسخ لحديث nindex.php?page=showalam&ids=24سمرة ، وما ذكرناه أولى. والله تعالى أعلم.
فإن قيل: بل المصير إلى النسخ أولى; لأن حديث nindex.php?page=showalam&ids=24سمرة - وإن حمل على الكراهة - فحديث nindex.php?page=showalam&ids=36جابر يقتضي الإباحة المطلقة; لأنه لما سكت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النهي عن ذلك إلى حين موته، وكذلك nindex.php?page=showalam&ids=2عمر - رضي الله عنه - مع حصول ذلك في الوجود كثيرا، فقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - غلام اسمه: رباح ، ومولى اسمه: يسار ، وقد سمى nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر مولاه: نافعا . ومثله كثير. فقد استمر العمل على حديث nindex.php?page=showalam&ids=36جابر ، فإذا هو متأخر، فيكون ناسخا.
والجواب: إن هذا التقدير يلزم منه أن لا يصدق قول nindex.php?page=showalam&ids=36جابر : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن ينهى عن ذلك، فإنه قد وجد النهي ولا بد، وهو صادق، فلا بد من تأويل لفظه. وما ذكرناه أولى. وما ذكر من تسمية موالي النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره بتلك الأسماء فصحيح; لأن ذلك جائز، وغاية ما ترك فيه الأولى، فكم من أولى قد سوغت الشريعة تركه، وإن فات بفوته أجر كثير، وخير جزيل; عملا بالمسامحة والتيسير، وتركا للتشديد والتعسير.