وقولها: ( فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤونته ... إلخ الكلام) فيه ما يدل على ما كانوا عليه من تبذل المرأة في خدمة زوجها وبيته وفرسه، وإن كانت شريفة. لكن هذا كله فعلته متبرعة بذلك مختارة له، راغبة؛ لما علمت فيه من الأجر، والثواب، وعونا لزوجها على البر والتقوى. ولا خلاف في حسن ذلك، ولا في أن كل ذلك ليس بواجب عليها; إذ لا يجب عليها أن تخرز الغرب، ولا أن تخدم الفرس، ولا أن تنقل النوى، وإنما اختلف في خدمة بيتها من عجن، وطبخ، وكنس، وفرش; فالشريفة ذات القدر التي رفع في صداقها لا يجب عليها أن تفعل شيئا من ذلك، ولا يحكم عليها به، ولا يجب عليها عند مالك أن تأمر الخدم بذلك، ولا تنهاهم، وليس عليها إلا أن تمكن من نفسها. وقال بعض شيوخنا عليها أن تأمرهم وتنهاهم بما يصلح حال زوجها; إذ لا كلفة عليها في ذلك، ولجريان العادة بمثله في الأشراف.
وفي كتاب nindex.php?page=showalam&ids=13055ابن حبيب : عليها في العسر الخدمة الباطنة، كما [ ص: 518 ] هي على الدنية. وأما من ليست كذلك فيجب عليها من خدمة بيتها ما جرت العادة بأن مثلها تفعله.
ومأخذ هذا الباب عندنا النظر إلى العوائد; فإن الإنسان إذا تزوج عند قوم، فالغالب أنه يبحث عن عاداتهم، ومناشئهم، فيعلمها، ولا يكاد يخفى عليه حالهم. فإذا تزوج ممن عادتهم أن لا تخدم نساؤهم أنفسهن، وإنما يخدمن، فقد دخل على أنه يبقيها على عادتها، ويسير بها سيرة نسائها، فلا يحكم له عليها بشيء من ذلك. بخلاف من جرت عادتها بأن مثلها لا تخدم، وإنما تخدم نفسها، فإنه يحكم له عليها بما ذكر من خدمة بيتها، وكذلك في رضاع الولد.
فأما من يجهل حالها، ولا يعلم عادة نسائها: فالأصل: أنها تخدم نفسها، فيحكم عليها بذلك، وبرضاعة الولد إلى أن يتبين أنها شريفة لها الحال والقدر. هذا أصل nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك وتفريعه، وقد خولف في ذلك; فمن الناس من لا يرى على المرأة خدمة مطلقا. ومنهم من يرى عليها الخدمة مطلقا، وهو أحوط. والأحسن التفصيل الذي صار إليه nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك والله تعالى أعلم.
و( الغرب ): الدلو العظيمة.
وقولها: ( كنت أنقل النوى من أرض nindex.php?page=showalam&ids=15الزبير التي أقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأسي ) قيل: إن هذه الأرض المقطعة من موات البقيع ، أقطعه من ذلك حضر فرسه، فأجراه، ثم رمى بسوطه رغبة في الزيادة فأعطاه ذلك كله.
ففيه من الفقه ما يدل على جواز إقطاع الإمام الأرض لمن يراه من أهل الفضل، والحاجة، والمنفعة العامة، كالعلماء، والمجاهدين، وغيرهم، لكن تكون تلك الأرض المقطعة من موات الأرض أو من الأرض الموقوفة لمصالح المسلمين كما قدمناه في الجهاد.
وفيه ما يدل على جواز الاستزادة من الحلال، وإظهار الرغبة فيه، كما فعل nindex.php?page=showalam&ids=15الزبير - رضي الله عنه - حيث أجرى فرسه، فلما وقف رمى بسوطه رغبة في الزيادة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يبصر ذلك كله، ولم ينكره عليه.
وقولها: ( فلقيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه، فدعاني، ثم قال: إخ، إخ ) تعني به: أنه نوخ ناقته ليركبها عليها.
و(إخ) - بكسر الهمزة وسكون الخاء - وهو صوت تنوخ به الإبل. وظاهر هذا المساق يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - عرض عليها الركوب، فلم تركب; لأنها استحيت، كما قالت. وعلى هذا فلا يحتاج إلى اعتذار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ركوبها معه، فإنه يحتمل أنها لو اختارت الركوب تركها راكبة وحدها، ولا يكون فيه من حيث هذا اللفظ دليل على جواز ركوب اثنين على بعير، فتأمله.
وقول nindex.php?page=showalam&ids=15الزبير : ( والله! لحملك النوى على رأسك أشد علي من ركوبك معه ) هذا يدل على أن nindex.php?page=showalam&ids=15الزبير لم يكلفها شيئا من ذلك، وإنما فعلت هي ذلك لحاجتها إلى ذلك، وتخفيفا عن زوجها; على عادة أهل الدين والفضل الذين لا التفات عندهم لشيء من زينة الدنيا، ولا من أحوال أهلها، فإنهم كانوا لا يعيبون على أنفسهم إلا ما عابه الشرع، فكانوا أبعد الناس منه، وأخرج هذا القول من nindex.php?page=showalam&ids=15الزبير فرط الاستحياء المجبول عليه أهل الفضل. ويعني بذلك: أن الحياء الذي لحقه من تبذلها بحمل النوى على رأسها أشد عليه من الغيرة التي كانت تلحقه عليها لو ركبت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه - صلى الله عليه وسلم - ليس ممن يغار على الحريم لأجله. والله تعالى أعلم.
وقولها: ( حتى أرسل إلي nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر - رضي الله عنه - بعد ذلك بخادم، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقتني ) دليل على مكارم أخلاق القوم، فإن nindex.php?page=showalam&ids=1أبا بكر - رضي الله عنه - علم ما كانت عليه ابنته من الضرر والمشقة، ولم يطالب صهره بشيء من ذلك، وكان مترقبا لإزالة ذلك، فلما تمكن منه أزاله من عنده.
[ ص: 521 ] و( الخادم ) يقال على الذكر والأنثى.
و( أعتقتني ) روي بتاء بعد القاف، ويكون فيه ضمير يعود على الخادمة. وبغير تاء، وضميره يعود إلى nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر - رضي الله عنه - وصح ذلك لأنها لما استراحت من خدمة الفرس، والقيام عليه بسبب الجارية التي بعث بها إليها nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر صح أن ينسب العتق لكل واحد منهما.