و (قوله: " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ") اصطفى: اختار. وصفوة الشيء: خياره. ووزنه: افتعل. والطاء فيه بدل من التاء لقرب مخرجيهما. ومعنى [ ص: 47 ] اختيار الله تعالى لمن شاء من خلقه: تخصيصه إياه بصفات كمال نوعه، وجعله إياه أصلا لذلك النوع، وإكرامه له على ما سبق في علمه، ونافذ حكمه من غير وجوب عليه، ولا إجبار، بل على ما قال: وربك يخلق ما يشاء ويختار [القصص: 68] وقد اصطفى الله تعالى من هذا الجنس الحيواني نوع بني آدم ، كما قال تعالى: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا [الإسراء: 70] ويكفيك من ذلك كله: أن الله تعالى خلق العالم كله لأجله، كما قد صرح بذلك عنه لما قال تعالى: وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [الجاثية: 13] ثم إن الله تعالى اختار من هذا النوع الإنساني من جعله معدن نبوته، ومحل رسالته، فأولهم: آدم عليه الصلاة والسلام، ثم إن الله تعالى اختار من نطفته نطفة كريمة، فلم يزل ينقلها من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، فكان منها الأنبياء والرسل، كما قال تعالى: إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم [آل عمران: 33 - 34] ثم إن الله تعالى اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل وإسحاق كما قال: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق [النساء: 163] ثم إن الله تعالى اصطفى من ولد إسماعيل كنانة كما ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث. ثم إن الله تعالى ختمهم بختامهم، وأمهم بإمامهم، وشرفهم بصدر كتيبتهم، وبيت قصيدتهم، شمس ضحاها، هلال ليلتها، در تقاصيرها، زبرجدها، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، أخره عن الأنبياء زمانا، وقدمه عليهم رتبة ومكانا. جعله الله واسطة النظام، وكمل بكماله أولئك الملأ الكرام، وخصه من بينهم بالمقام المحمود، في اليوم المشهود، فهو شفيعهم إذا استشفعوا، وقائدهم إذا وفدوا، وخطيبهم إذا [ ص: 48 ] جمعوا، وسيدهم إذا ذكروا، فاقتبس من الخبر عيونه، فبيده لواء الحمد، تحته آدم فمن دون، ويكفيك أثرة وكرامة: " nindex.php?page=hadith&LINKID=691409أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ". والسيد: اسم فاعل، من ساد قومه، إذا تقدمهم بما فيه من خصال الكمال، وبما يوليهم من الإحسان والإفضال، وأصله: سيود؛ لأن: ألف ساد منقلبة عن واو، بدليل: أن مضارعه يسود، فقلبوا الواو ياء، وأدغموها في الياء، فقالوا: سيد. وهذا كما فعلوا في: ميت. وقد تبين للعقل والعيان ما به كان محمد صلى الله عليه وسلم سيد نوع الإنسان.
وقد ثبت بصحيح الأخبار ما له من السؤدد في تلك الدار، فمنها أنه قال: " أنا سيد ولد آدم ". قال: " وتدرون بم ذاك؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: " إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد "، وذكر حديث الشفاعة المتقدم. ومضمونه: أن الناس كلهم إذا جمعهم موقف القيامة، وطال عليهم، وعظم كربهم طلبوا من يشفع لهم إلى الله تعالى في إراحتهم من موقفهم، فيبدءون بآدم عليه السلام، فيسألونه الشفاعة، فيقول: نفسي، نفسي، لست لها، وهكذا يقول من سئلها من الأنبياء، حتى ينتهي الأمر إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: " أنا لها "، فيقوم في أرفع مقام، ويخص بما لا يحصى من المعارف والإلهام، وينادى بألطف خطاب وأعظم إكرام: يا محمد ! قل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع. وهذا مقام لم ينله أحد من الأنام، ولا سمع بمثله لأحد من الملائكة الكرام، فنسأل الله تعالى باسمه العظيم، وبوجهه الكريم أن يحيينا على شريعته، ويميتنا على ملته، ويحشرنا في زمرته، ولا يجعلنا ممن ذيد عنه، وبعد منه.