وسائلي بمعجزي عن وطني ما ضاق بي جنابه ولا نبا
فأدخل " رب " على " سائلي " مع أنه مضاف إلى ياء المتكلم، فدل على: أنه لم يرد به سائلا واحدا، فكأنه قال: ورب سائل، وكذلك الوطن في قوله: عن وطني، [ ص: 224 ] لأن الجملة التي بعده صفة له، أي: عن وطن لم ينب بي جنابه، أي: غير ناب. ويصح أن تكون إضافة " عبدي " محضة ومعرفة، ويعني به: عبدي المكرم عندي، كما قال: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان [الحجر: 42] أي: عبادي المكرمون عندي، والمشرفون لدي، وقد شهد لهذا المعنى ما قد روي في كتاب في هذا الحديث: " لا ينبغي لنبي أن يقول: أنا خير من أبي داود يونس "، كما قد روي أيضا ما يشهد بتنكير " عبد " في كتاب : " لا أقول: إن أحدا أفضل من مسلم يونس "، وعلى هذا فيقيد مطلق الرواية الأولى بمقيد هذه الرواية، فيكون معناه: لا ينبغي لعبد نبي أن يقول: أنا خير من يونس . وهذا هو الأولى؛ لأنه من ليس بنبي لا يمكنه بوجه أن يقول: أنا أفضل من النبي؛ لأنه من المعلوم الضروري عند المتشرعين: أن درجة النبي لا يبلغها ولي، ولا غيره، وإنما يمكن ذلك في الأنبياء؛ لأنهم صلوات الله وسلامه عليهم قد تساووا في النبوة، وتفاضلوا فيما بينهم بما خص به بعضهم دون بعض، فإن منهم من اتخذه الله خليلا، ومنهم من اتخذه حبيبا، ومنهم أولو العزم، ومنهم من كلم الله على ما هو المعروف من أحوالهم، وقد قال الله تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض [البقرة: 253] فإن قيل: إذا كانوا متفاضلين في أنفسهم فكيف ينهى عن التفضيل؟ وكيف لا يقول من هو في درجة عليا: أنا خير من فلان، لمن هو دونه، على جهة الإخبار عن المعنى الصحيح؟ فالجواب: أن مقتضى هذا الحديث المنع من إطلاق ذلك اللفظ، لا المنع من اعتقاد معناه أدبا مع يونس ، وتحذيرا من أن يفهم في يونس نقص من إطلاق ذلك اللفظ. وإنما خص يونس عليه السلام بالذكر في هذا الحديث؛ لأنه لما دعا قومه للدخول في دينه، فأبطؤوا عليه ضجر، واستعجل بالدعاء عليهم، ووعدهم بالعذاب بعد [ ص: 225 ] ثلاث، وفر منهم، فرأى قومه دخانا، ومقدمات العذاب الذي وعدهم به، فآمنوا به، وصدقوه، وتابوا إلى الله تعالى، فردوا المظالم حتى ردوا حجارة مغصوبة كانوا بنوها، ثم إنهم فرقوا بين الأمهات وأولادهم، ودعوا الله تعالى، وضجوا بالبكاء والعويل، وخرجوا طالبين يونس فلم يجدوه، فلم يزالوا كذلك حتى كشف الله عنهم العذاب، ومتعهم إلى حين، وهم أهل نينوى من بلاد الموصل على شاطئ دجلة ، ثم إن يونس ركب في سفينة فسكنت ولم تجر، فقال أهلها: فيكم آبق. فقال: أنا هو. فأبوا أن يكون هو الآبق فقارعهم، فخرجت القرعة عليه، فرمي في البحر، فالتقمه حوت كبير، فأقام في بطنه ما شاء الله، وقد اختلف في عدد ذلك من يوم إلى أربعين، وهو في تلك المدة يدعو الله تعالى، ويسبحه إلى أن عفا الله عنه، فلفظه الحوت في ساحل لا نبات فيه، وهو كالفرخ، فأنبت الله تعالى عليه من حينه شجرة اليقطين، فسترته بورقها. وحكى أهل التفسير: أن الله تعالى قيض له أروية ترضعه إلى أن قوي، فيبست الشجرة، فاغتم لها وتألم، فقيل له: أتغتم وتحزن لهلاك شجرة، ولم تغتم على هلاك مائة ألف أو يزيدون؟ وقد دل على صحة ما ذكر قوله تعالى: وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون... [الصافات: 139 - 140] الآيات إلى آخرها، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن للنبوة أثقالا، وإن يونس تفسخ تحتها تفسخ الربع " أو كما قال.