(قوله : " إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم ") خلق هنا : بمعنى اخترع ، وأصله : التقدير ، كما تقدم . والخلق هنا : بمعنى المخلوق ، وأصله مصدر ، يقال : خلق يخلق خلقا : إذا قدر ، وإذا اخترع . قال زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفري
أي : تقطع ما قدرت . وقال الله تعالى : هذا خلق الله [لقمان: 11] أي : مخلوقه . ومعنى فرغ منهم : أي كمل خلقهم ، لا أنه اشتغل بهم ، ثم فرغ من شغله بهم ، إذ ليس فعله بمباشرة ، ولا بمناولة ، ولا خلقه بآلة ، ولا محاولة ، تعالى عما يتوهمه المتوهمون ، وسبحانه إذا أراد شيئا ، فإنما يقول له : كن فيكون .
و (قوله : " قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ") هذا الكلام من المجاز المستعمل ، والاتساع المشهور، إذ الرحم عبارة عن قرابات الرجل من جهة طرفي آبائه وإن علوا ، وأبنائه وإن نزلوا ، وما يتصل بالطرفين من الأعمام والعمات ، والأخوال والخالات ، والإخوة والأخوات ، ومن يتصل بهم من أولادهم برحم جامعة . والقرابة إذا نسبة من النسب ، كالأبوة ، والأخوة ، والعمومة ، وما كان كذلك استحال حقيقة القيام والكلام ، فيحمل هذا الكلام على التوسع ، ويمكن حمله على أحد وجهين :
[ ص: 525 ] أحدهما : أن يكون الله تعالى أقام من يتكلم عن الرحم من الملائكة ، فيقول ذلك ، وكأنه وكل بهذه العبادة من يناضل عنها ، ويكتب ثواب من وصلها ، ووزر من قطعها ، كما قد وكل الله بسائر الأعمال كراما كاتبين ، وبمشاهدة أوقات الصلوات ملائكة متعاقبين .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " اقرؤوا إن شئتم : فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم [محمد: 22] عسى : من أفعال المقاربة ، ويكون رجاء وتحقيقا ، قال الجوهري : عسى من الله واجبة في جميع القرآن إلا قوله تعالى : [ ص: 526 ] عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن [التحريم: 5] وإذا اتصل بعسى ضمير فاعل كان فيها لغتان ، فتح السين وكسرها ، وقرئ بهما ، وظاهر الآية : أنه خطاب لجميع الكفار . قال nindex.php?page=showalam&ids=16815قتادة : معنى الآية : فلعلكم - أو يخاف عليكم - إن أعرضتم عن الإيمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض بسفك الدماء .
قلت : وعلى هذا فتكون الرحم المذكورة هنا رحم دين الإسلام والإيمان التي قد سماها الله إخوة بقوله : إنما المؤمنون إخوة [الحجرات: 10] وقال الفراء : نزلت هذه الآية في بني هاشم وبني أمية . وعلى هذا فتكون رحم القرابة ، وعلى هذا فالرحم المحرم قطعها ، المأمور بصلتها على وجهين ؛ عامة وخاصة .
فالعامة : رحم الدين ، وتجب مواصلتها بملازمة الإيمان ، والمحبة لأهله ونصرتهم ، والنصيحة لهم ، وترك مضارتهم ، والعدل بينهم ، والنصفة في معاملتهم ، والقيام بحقوقهم الواجبة كتمريض المرضى ، وحقوق الموتى : من غسلهم ، والصلاة عليهم ، ودفنهم ، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم .
وأما الرحم الخاصة : فتجب لهم الحقوق العامة ، وزيادة عليها كالنفقة على القرابة القريبة ، وتفقد أحوالهم ، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم ، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة ، حتى إذا تزاحمت الحقوق بدئ بالأقرب فالأقرب كما تقدم .