قوله : ( أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه ) الكدح : السعي في العمل لدنيا كان أو لآخرة ، وأصله : العمل الشاق والكسب المتعب .
[ ص: 662 ] و (قوله : فلا يكون ظلما ) كذا الرواية بغير ألف استفهام ، وهي مرادة ؛ إذ بالاستفهام حصل فزع المسؤول ، وبه صح أن يكون ما أتى به من قوله : كل شيء خلق الله وملك يده . . . إلى آخره . جوابا عما سأله عنه ، ولو لم يكن الاستفهام مرادا لكان الكلام نفيا للظلم ، وهو صحيح وحق ، ولا يفزع من ذلك ولا يستدعي جوابا . وبيان ما سأله عنه أنه لما تقرر عنده أن ما يعمل الناس فيه شيء قضي به عليهم ، ولا بد لهم منه ، فكأنهم يلجؤون إليه ، فكيف يعاقبون على ذلك ؛ فعقابهم على ذلك ظلم ، وهذه من شبه القدرية المبنية على التحسين والتقبيح ، وقد أجاب عن ذلك أبو الأسود ، وأحسن في الجواب ، ومقتضى الجواب أن الظلم لا يتصور من الله تعالى ، فإن الكل خلقه وملكه ، لا حجر عليه ، ولا حكم ، فلا يتصور في حقه الظلم لاستحالة شرطه ، على ما بيناه غير مرة ، ثم عضد بقوله : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ولما سمع nindex.php?page=showalam&ids=40عمران هذا الجواب تحقق أنه قد وفق للحق ، وأصاب عين الصواب ، فاستحسن ذلك منه ، وأخبره أنه إنما امتحنه بذلك السؤال ليختبر عقله ، وليستخرج عمله ، ثم أفاده الحديث المذكور ، ومعناه قد تقدم الكلام عليه . ثم قال : وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها [الشمس: 7 -8] وقوله : ونفس هو قسم بنفوس بني آدم ، [ ص: 663 ] وأفردها لأن مراده النوع ، وهذا نحو قوله : علمت نفس ما قدمت وأخرت [الانفطار: 5] أي : كل نفس . كما قال : كل نفس بما كسبت رهينة [المدثر: 38]. ألا ترى قوله : فألهمها فجورها وتقواها [الشمس: 8] أي : حملها على ما أراد من ذلك ، فمنها ما خلق للخير ، وأعانها عليه ويسره لها ، ومنها ما خلق للشر ويسره لها ، وهذا هو الموافق للحديث المتقدم ، المصدق بالآية .
و (قوله : وما سواها أي : والذي سواها ، وقد قدمنا أن (ما) في أصلها لما لا يعقل ، وقد تجيء بمعنى الذي ، وهي تقع لمن يعقل ولما لا يعقل . والتسوية : التعديل . يعني أنه خلقها مكملة بكل ما تحتاج إليه ، مؤهلة لقبول الخير والشر ، غير أنه يجري عليها في حال وجودها وما لها ما سبق لها مما قضي به عليها . وفي حديث nindex.php?page=showalam&ids=40عمران هذا من الفقه جواز اختبار العالم عقول أصحابه الفضلاء بمشكلات المسائل ، والثناء عليهم إذا أصابوا ، وبيان العذر عن ذلك . والذي قضي عليها أنها إما من أهل السعادة وبعمل أهل السعادة الذي به تدخل الجنة تعمل ، وإما من أهل الشقاوة ، وبعمل أهل الشقاوة الذي به تدخل النار تعمل . كما قال تعالى : " هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، وهؤلاء للنار ، [ ص: 664 ] وبعمل أهل النار يعملون ، فطوبى لمن قضيت له بالخير ، ويسرته عليه ، والويل لمن قضيت عليه بالشر ، ويسرته له " . وما أحسن قول من قال : قسم قسمت ، ونعوت أجريت ، كيف تجتلب بحركات ، أو تنال بسعايات ! ومع ذلك فغيب الله عنا المقادير ، ومكننا من الفعل والترك ؛ رفعا للمعاذير ، وخاطبنا بالأمر والنهي خطاب المستقلين ، ولم يجعل التمسك بسابق القدر حجة للمقصرين ، ولا عذرا للمعتذرين ، وعلق الجزاء على الأعمال ، وجعلها له سببا ، فقال تعالى : ولتجزى كل نفس بما كسبت [الجاثية: 22] وبـ ما عملت [النحل: 111]، وقال في أهل الجنة : جزاء بما كانوا يعملون [السجدة: 17] وقال في أهل النار : جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون [فصلت: 28] وقال : ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [النجم: 31] وقال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : " nindex.php?page=hadith&LINKID=661682يا عبادي إنما هي أعمالكم أردها عليكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد الأخرى ، فلا يلومن إلا نفسه " . وكل ذلك من الله ابتلاء وامتحان ، فيجب التسليم له والإذعان .