(قوله : " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ") أي : أثبتها في اللوح المحفوظ ، كما قلناه آنفا ، أو فيما شاء ، فهو [ ص: 669 ] توقيت للكتب لا للمقادير ، لأنها راجعة إلى علم الله تعالى وإرادته ، وذلك قديم لا أول له ، ويستحيل عليه تقديره بالزمان ؛ إذ الحق سبحانه وتعالى بصفاته موجود ، ولا زمان ولا مكان ، وهذه الخمسون ألف سنة ستون تقديرية ؛ إذ قبل خلق السماوات لا يتحقق وجود الزمان ؛ فإن الزمان الذي يعبر عنه بالسنين والأيام والليالي ؛ إنما هو راجع إلى أعداد حركات الأفلاك ، وسير الشمس والقمر في المنازل والبروج السماوية ، فقبل السماوات لا يوجد ذلك ، وإنما يرجع ذلك إلى مدة في علم الله تعالى لو كانت السماوات موجودة فيها لعددت بذلك العدد ، وهذا نحو مما قاله المفسرون في قوله تعالى : خلق السماوات والأرض في ستة أيام [الأعراف: 54] أي : في مقدار ستة أيام ، ثم هذه الأيام كل يوم منها مقدار ألف سنة من سني الدنيا ، كما قال تعالى : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [الحج: 47] وكقوله : في يوم كان مقداره ألف سنة [السجدة: 47] هذا قول nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وغيره من سلف المفسرين على ما رواه nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري في تاريخه عنهم ، ويحتمل أن يكون ذكر الخمسين ألفا جاء مجيء الإغياء في التكثير ، ولم يرد عين ذلك العدد ، فكأنه قال : كتب الله مقادير الخلائق قبل خلق هذا العالم بآماد كثيرة ، وأزمان عديدة ، وهذا نحو مما قلناه في قوله تعالى : إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم [التوبة: 80] والأول أظهر وأولى .
و (قوله : " وعرشه على الماء ") أي : قبل خلق السماوات والأرض . حكي عن nindex.php?page=showalam&ids=16850كعب الأحبار أن أول ما خلق الله تعالى ياقوتة خضراء ، فنظر إليها بإلهيته فصارت ماء ثم وضع عرشه على الماء . قال nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في قوله تعالى : وكان عرشه على الماء أي : فوق الماء ؛ إذ لم يكن سماء ولا أرض .
قلت : أقوال المفسرين كثيرة ، والمسند المرفوع منها قليل ، وكل ذلك [ ص: 670 ] ممكن ، والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك . والذي نعلمه قطعا : أن الله تعالى قديم ، لا أول لوجوده ، فكان موجودا وحده ، ولا موجود سواه ، ثم اخترع بقدرته وإرادته ما سبق في علمه ، ونفذت به مشيئته ، كما شاء ومتى شاء ، والذي نعلم استحالته قطعا : أزلية شيء غير الله تعالى من عرش ، أو كرسي ، أو ماء ، أو هواء ، أو أرض ، أو سماء ؛ إذ كل ذلك ممكن في نفسه ، وكل موجود ممكن محدث ؛ ولأن كل ذلك لا يخلو عن الحوادث ، وما لا يخلو عن الحوادث حادث على ما تعرف حقيقته في موضعه ؛ ولأنه المعلوم الضروري من الشرع ، فمن شك فيه أو جحده ، فهو كافر ، ومما يعلم استحالته : كون العرش حاملا لله تعالى ، وأن الله تعالى مستقر عليه كاستقرار الأجسام ؛ إذ لو كان محمولا لكان محتاجا فقيرا لما يحمله ، وذلك ينافي وصف الإلهية ؛ إذ أخص أوصاف الإله : الاستغناء المطلق ، ولو كان ذلك للزم كونه جسما مقدرا ، ويلزم كونه حادثا على ما سبق ؛ فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى [طه: 5] قيل : له محامل واضحة ، وتأويلات صحيحة ، غير أن الشرع لم يعين لنا محملا من تلك المحامل ، فيتوقف في التعيين ويسلك مسلك السلف الصالح في التسليم .