(قوله : " كل مولود يولد على الفطرة ") قد تقدم : أن أصل الفطرة : الخلقة المبتدأة ، وقد اختلف الناس في الفطرة المذكورة في هذا الحديث وفي الآية ، فقيل : هي سابقة السعادة والشقاوة ، وهذا إنما يليق بالفطرة المذكورة في القرآن ، لأن الله تعالى قال : لا تبديل لخلق الله [الروم: 30] وأما في الحديث فلا ، لأنه [ ص: 676 ] قد أخبر في بقية الحديث : بأنها تبدل وتغير ، وقيل : هي ما أخذ عليهم من الميثاق وهم في أصلاب آبائهم . وهذا إنما يليق بالرواية التي جاء فيها : " كل مولود يولد على الفطرة " ويبعد في رواية من رواه : " على هذه الملة " وهي إشارة إلى ملة الإسلام .
وقال بظاهر هذه الآية طائفة من المتأولين ، وهذا القول أحسن ما قيل في ذلك - إن شاء الله تعالى - لصحة هذه الرواية ، ولأنها مبينة لرواية من قال : على الفطرة . ومعنى الحديث : إن الله تعالى خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق ، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات ، فما دامت باقية على ذلك القبول ، وعلى تلك الأهلية أدركت الحق . ودين الإسلام هو الدين الحق ، وقد جاء ذلك صريحا في الصحيح : " جبل الله الخلق على معرفته ، فاجتالتهم الشياطين " وقد تقدم هذا المعنى ، وقد دل على صحة هذا المعنى بقية الخبر ، حيث قال : " كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء " يعني : أن البهيمة تلد ولدها كامل الخلق ، سليما من الآفات ، فلو نزل على أصل تلك الخلقة لبقي كاملا بريئا من العيوب ، لكن يتصرف فيه ، فتجدع أذنه ، ويوسم وجهه ، فتطرأ عليه الآفات والنقائص ، فيخرج عن الأصل ، وكذلك الإنسان ، وهو تشبيه واقع ، ووجهه واضح . والرواية " تنتج " بضم التاء الأولى ، وفتح الثانية ، مبنيا لما لم يسم فاعله . يقال ذلك إذا ولدت ، ومصدرها نتاجا ، وقد نتجها أهلها نتجا ، بفتح النون والتاء ، مبنيا للفاعل . وهم ناتجوها : إذا ولدت عندهم وتولوا نتاجها . وحكى nindex.php?page=showalam&ids=13674الأخفش فيه أنه يقال : أنتجت الناقة ، رباعيا . ويقال : أنتجت الفرس والناقة : حان نتاجهما . وقال يعقوب : إذا استبان حملها ، فهي نتوج ، ولا يقال : منتج ، وأتت [ ص: 677 ] الناقة على منتجها - بكسر الجيم - أي : الوقت الذي تنتج فيه . ونصب (جمعاء) على الحال ، وبهيمة : منصوبة على التوطئة لتلك الحال . والجذع : القطع . وتحسون : تدركون بحسكم وحواسكم .
و (قوله : " ما من مولود إلا يولد ") كذا لكلهم غير السمرقندي ، فعنده (تلد) بتاء باثنتين من فوقها مضمومة ، وبكسر اللام على وزن : ولد ، وضرب ، وتخرج على ما ذكر الهجري في نوادره . قال : يقال ولد وتلد بمعنى ، ويكون على إبدال الواو تاء لانضمامهما .
و (قوله : " كل ابن آدم يلكز الشيطان في حضنيه ") كذا لجميعهم . والحضن : الجنب . وقيل : الخاصرة ، غير أن nindex.php?page=showalam&ids=13486ابن ماهان رواه : خصييه ، تثنية خصية ، وهو وهم وتصحيف ، بدليل قوله : " إلا مريم وابنها " .
و (قوله : أرأيت من يموت صغيرا ) هذا السؤال إنما كان عن أولاد المشركين ، كما جاء مفسرا من حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : " فأما أولاد المؤمنين " فقد تقدم الاستدلال على أنهم في الجنة ، وأما أطفال المشركين فاختلف فيهم على ثلاثة أقوال : فقيل : في النار مع آبائهم ، وقيل : في الجنة ، وقيل : تؤجج لهم نار [ ص: 678 ] ويؤمرون بدخولها ، فمن أطاع منهم دخل الجنة ، ومن عصى منهم دخل النار . وذهب قوم - وأحسبهم من غير أهل السنة - فقالوا : يكونون في برزخ . وسبب اختلاف الثلاثة الأقوال : اختلاف الآثار في ذلك ، ومخالفة بعضها لظاهر قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [الإسراء: 15] والصبي والمجنون لا يفهمون ولا يخاطبون ، فهم كالبهائم ، فلم يبعث إليهم رسول ، فلا يعذبون . والحاصل من مجموع ذلك - وهو القول الحق الجاري على أصول أهل الحق - أن العذاب المترتب على التكليف لا يعذبه من لم يكلف . ثم لله تعالى أن يعذب من شاء ابتداء من غير تكليف من صبي أو مجنون ، أو غير ذلك بحكم المالكية ، وأنه لا حجر عليه ، ولا حكم ، فلا يكون ظالما بشيء من ذلك إن فعله ، كما قررناه في الباب قبل هذا . وعلى هذا يدل قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة - رضي الله عنها - : " nindex.php?page=hadith&LINKID=661821إن الله خلق للجنة أهلا ، وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلا ، وهم في أصلاب آبائهم . قد قدمنا : أن الأعمال معرفات لا موجبات .