(قوله : " يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح ") قد تقدم الكلام على الأملح في الضحايا ، وأنه الذي فيه بياض وسواد ، والبياض أكثر ، كما قاله الكسائي . وقيل : يحتمل أن تكون الحكمة في كون هذا الكبش أملح لأن البياض من جهة الجنة ، والسواد من جهة النار . قلت : ظاهر هذا الحديث مستحيل ، وذلك أن العقلاء اتفقوا على : أن الموت : إما عرض مخصوص ، وإما نفي الحياة ، ولم يذهب أحد إلى أنه من قبيل الجواهر ، وأيضا : فإن المدرك من الموت والحياة إنما هما أمران متضادان متعاقبان على الجواهر ، كالحركة وكالسكون ، وقد دل على ذلك من جهة السمع قوله تعالى : خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ تبارك : 2 ] فهذا يبطل قول من قال من المعتزلة : إن الموت عدم الحياة ; لأن العدم لا يخلق ، ولا يوجب اختصاصا للجواهر . واستيفاء المباحث العقلية في علم الكلام ، وإذا تقرر ذلك استحال أن ينقلب الموت كبشا ; لأن ذلك انقلاب الحقائق وهو محال . وقد تأول الناس ذلك الخبر على وجهين :
أحدهما : أن الله تعالى خلق صورة كبش خلق فيها الموت ، فلما رآه أهل [ ص: 191 ] الجنة وأهل النار وعرفوه ، فعل الله فيه فعلا يشبه الذبح ، أعدمه عند ذلك الفعل حتى يأمنه أهل الجنة ، فيزدادوا سرورا إلى سرورهم ، وييأس منه أهل النار فيزدادوا حزنا إلى حزنهم ، وعلى هذا يدل باقي الحديث ، ولا إحالة في شيء من ذلك ولا بعد .
والوجه الثاني : أن المراد بالحديث تمثيل عدم الموت على جهة التشبيه والاستعارة ، ووجهه : أن الموت لما عدم في حق هؤلاء صار بمثابة الكبش الذي يذبح فينعدم ، فعبر عنه بذلك ، وهذا فيه بعد وتحميل للكلام على ما لا يصلح له ، والوجه المعني : الأول . والله أعلم .
ويشرئبون : يرفعون رؤوسهم ويتشوفون ليبصروا ما عرض عليهم .
و (قوله : وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر الآية [ مريم : 39 ] ، ومعنى أنذرهم : أعلمهم وحذرهم ، والنذارة : إعلام بالشر ، والبشارة : إعلام بالخير ، ويوم الحسرة : يعني به زمن ذبح الموت إذا سمعوا : خلود فلا موت . وقضي : بمعنى أحكم وتمم . والأمر : يعني به خلود أهل النار فيها .
و (قوله : وهم في غفلة وهم لا يؤمنون [ مريم : 39 ] استئناف خبر عما كانوا عليه في الدنيا ، لا تعلق له بما قبله ، يدل عليه قوله في الحديث : وأشار بيده إلى الدنيا ، يعني أنهم كانوا كذلك في الدنيا ، والله تعالى أعلم .