رواه أحمد (2 \ 326) ، والبخاري (3372) ، ومسلم (151) وابن ماجه (4026) .
و (قوله : " نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال : رب أرني كيف تحي الموتى [ البقرة : 260 ] اختلف العلماء قديما وحديثا في هذا السؤال ، هل صدر عن شك وقع أم لا ؟ فهم فرقتان : المثبتة للشك والنافية له . فالمثبتون اختلفوا فيمن وقع له هذا الشك ، فمنهم من قال : إنما وقع الشك لأمة إبراهيم ، بدليل أول القصة ، وهو قوله : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه . . . الآية [ البقرة : 258 ] ، فسأل إبراهيم ربه تعالى أن يريه وأمته كيفية إحياء الموتى ليطمئن قلبه بظهور حجته عليهم ، وبإزالة الشك عنهم . قاله الضحاك ، nindex.php?page=showalam&ids=12563وابن إسحاق . [ ص: 317 ] ومنهم من قال : الشك من إبراهيم ، لكن فيماذا اختلفوا فيه ، فمنهم من قال : في الإحياء . حكي عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : دخل قلبه بعض ما يدخل على القلوب ، وهذا لا يصح نقله ولا معناه ; لأن الله تعالى قد أخبر عنه في أول القصة بأنه قال للمحتج عليهم : ربي الذي يحيي ويميت وكيف يجوز على الأنبياء مثل هذا الشك ، وهو كفر ؟ فإن الأنبياء متفقون على الإيمان بالبعث . ومنهم من قال : وقع له الشك في كونه خليلا ، أو في كونه مجاب الدعوة ، فسأل الله تعالى ودعاه بأن يريه إحياء الموتى حتى يطمئن قلبه بذلك . ومنهم من قال : وقع له شك في كيفية الإحياء ، لا في أصل الإحياء . قال الحسن : رأى جيفة نصفها في البر توزعها السباع ، ونصفها في البحر توزعها دواب الماء ، فلما رأى تفرقها أحب أن يرى انضمامها ، فسأل ليطمئن قلبه برؤية كيفية الجمع ، كما رأى كيفية التفريق . ويتنزل قول نبينا صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق بالشك من إبراهيم " على هذه الأقوال واحدا واحدا ، بحسب ما يليق به .
وأما النافون للشك فاختلفوا ، فمنهم من قال : أري من نفسه الشك ، وما شك ، ولكن ليجاب فيزداد قربه . قال القاضي : وهذا تكلف في اللفظ والمعنى .
ومنهم من قال : لم يشك إبراهيم ، وقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق بالشك من إبراهيم " نفي للشك عنه ، لا إثبات له ، فكأنه قال : نحن موقنون بالبعث وإحياء الموتى ، فلو شك إبراهيم لكنا نحن أولى بذلك منه ، على طريق الأدب ، وإكبار حال إبراهيم - عليه السلام - لا على جهة أنه وقع شك لواحد منهما .
ومنهم من قال : إنما جاوب نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله : " نحن أحق بالشك " من سمعه يقول : شك إبراهيم ، ولم يشك نبينا ، فقال ذلك .
قلت : هذه جملة ما سمعناه من شيوخنا ، ووقفنا عليه في كتب أئمتنا ، وكلها محتمل يرتفع به الإشكال ، إلا ما حكي عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ; فإنه قول فاسد ، وليس في الآية ما يدل على أن إبراهيم شك ، بل الذي تضمنته أن إبراهيم - عليه السلام - سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها ، واتصال [ ص: 318 ] الأعصاب والجلود بعد تمزيقها ، فأراد أن يترقى من علم اليقين إلى عين اليقين ، بقوله : " أرني كيف " طلب مشاهدة الكيفية .
و (قوله : ليطمئن قلبي [ البقرة : 260 ] أي : بحصول الفرق بين المعلوم برهانا ، والمعلوم عيانا . فإذا لم يكن في الآية ما يدل على شك وقع لإبراهيم ، ولا لنبينا صلى الله عليه وسلم ، وإنما صدر ذلك من نبينا صلى الله عليه وسلم ، على الفرض الذهني ، والتقدير الشرطي ، فكأنه قال : لو شك إبراهيم في إحياء الموتى لكنا نحن أحق بالشك منه ، ولم نشك نحن ، فهو أولى وأحق بألا يشك ، وهذا هو البرهان المسمى عند أئمتنا النظار : البرهان الشرطي المتصل ، وأهل المنطق يسمونه بالقياس الاستثنائي الذي ينتج منه استثناء عين التالي ، ونقيض المقدم ، على ما هو معروف في موضعه .
و (قوله : " ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي ") يعني به : الداعي الذي دعاه إلى الخروج من السجن المذكور في قوله تعالى : فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله الآية [ يوسف : 50 ] ، يصف يوسف - عليه السلام - بالتثبت والصبر على المحنة ، وأنه أقام في السجن والتضييق عليه مدة طويلة ، والنفوس متشوقة إلى الخروج من الضيق ، والحبس الطويل ، لا سيما إذا بشر بالتخلص ، ودعي إليه . فمقتضى الطبع : المبادرة إلى أول دعوة ، والانفلات بمرة ، لكنه لما جاءه الداعي لم يبادر لإجابته ، ولا استخفه الفرح بالتخلص من محنته ، لكنه سكن وثبت إلى أن ظهرت براءته وعلمت منزلته . ثم إن نبينا صلى الله عليه وسلم تأدب معه غاية الأدب ، واعترف له بأنه من التثبت والصبر في أعلى الرتب ، وحمده على ذلك ، وقدر أنه لو امتحن بذلك لبادر إلى التخلص من ذلك [ ص: 319 ] لأول داع . هذا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطي من التثبت في الأمور ، والصبر على المكاره الحظ الأوفر ، والنصيب الأكبر ، لكنه تواضع لله ، وتأدب مع أخيه نبي الله .
و (قوله : " ويرحم الله لوطا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد " ، وفي الرواية الأخرى : " يغفر الله للوط ") هذا تنبيه على قول لوط لضيفه : لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد [ هود : 80 ] وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أن لوطا لم يرض منه بذلك القول في ذلك الموطن ; فإنه قد كان انتهى من كمال المعرفة بالله تعالى إلى حال لا يليق به فيها أن يلتفت إلى غير الله تعالى في كفاية المحن ، ودفع الشدائد ، فلما ضعف عما كان ينبغي له عوتب على ذلك ، ونسب إلى التقصير . والذي أصدر ذلك القول من لوط ضيق صدره بما لقي من قومه من التكذيب والأذى . وحياؤه من أضيافه عند هم قومه بالفاحشة ، وأنه لم تكن له عشيرة ، ولا أصحاب آمنوا به حتى ينتصر بهم على قومه ; فإنه لم يؤمن به أحد ممن أرسل إليه غير ابنتيه ، ولما أهلك قومه لم ينج منهم إلا هو وابنتاه ، ومع هذه الأعذار كلها لم يرض منه بأن يصدر منه ذلك في حال تمكنه وتمكينه . وكأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد من لوط أن يكون على مثل حال إبراهيم - عليه السلام - في شدائده ، فإنه قال حين رمي بالمنجنيق ، وهو في الهواء ، وقال له جبريل - عليه السلام - : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا . ونحو ذلك صدر عن نبينا صلى الله عليه وسلم حين كان في الغار ، والكفار عند فم الغار ، فقال لأبي بكر - رضي الله عنه - وقد رأى جزعه : " لا تحزن إن الله معنا " . [ ص: 320 ] والحاصل أن لأهل المعرفة بالله تعالى من الأنبياء ، والأولياء حالين : حال حضور ومراقبة ، فتتوجه عليهم بحسبها المناقشة والمعاتبة ، وحال غيبة وبشرية ، فيجرون فيها على الأمور العادية ، فتارة يناقشون ، وأخرى يسامحون ، فضلا من الله ونعمة ، ورفقا بهم ورحمة ، وقد تقدم بسط هذا المعنى .
و (قوله : " ولو لبثت في السجن لبث يوسف ") أي : لو مكثت وأقمت . يقال : لبث يلبث ، بالكسر في الماضي والفتح في المضارع ، لبثا ، بضم اللام وسكون الباء ، ولباثا ، وكلاهما على غير قياس ; لأن المصدر من فعل ، بالكسر ، قياسه التحريك إذا لم يعد ، مثل : تعب تعبا ، وقد جاء في الشعر على القياس . قال nindex.php?page=showalam&ids=97جرير :
وقد أكون على الحاجات ذا لبث وأحوذيا إذا انضم الذعاليب