[ ص: 149 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - : أعوذ بالله منك ; أي : أستتر وألتجئ في كفايته إياي منك . ومنه سمي العود الذي يلجأ إليه الغثاء في السيل : عوذا ; لأن الغثاء يلجأ إليه .
وقوله : ألعنك بلعنة الله التامة ، أصل اللعن : الطرد والبعد ، ومعناه : أسأل الله أن يلعنه بلعنته .
والتامة يحتمل وجهين :
أحدهما : أنها الكاملة التي لا ينقص منها شيء .
والثاني : المستحقة الواجبة ، كما قال : وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا [ الأنعام : 115 ] ; أي : حقت ووجبت ، ولم يقصد مخاطبة الشيطان ; لأنه كان يكون متكلما في الصلاة ، وإنما كان متعوذا بالله ; كما قال : أعوذ بالله منك .
قوله : ولولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان المدينة . يدل على أن ملك الجن والتصرف فيهم بالقهر مما خص به سليمان ، وسبب خصوصيته : دعوته التي استجيبت له ، حيث قال : وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب [ ص : 35 ] [ ص: 150 ] ولما تحقق النبي - صلى الله عليه وسلم - الخصوصية ، امتنع من تعاطي ما هم به من أخذ الجني وربطه . فإن قيل : كيف يتأتى ربطه وأخذه واللعب به ، مع كون الجن أجساما لطيفة روحانية ؟ قلنا : كما تأتى ذلك لسليمان - عليه السلام - ; حيث جعل الله له منهم كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد [ ص : 37 و 38 ] ولا شك أن الله تعالى أوجدهم على صور تخصهم ، ثم مكنهم من التشكل في صور مختلفة ، فيتمثلون في أي صورة شاؤوا ، أو شاء الله ، وكذلك فعل الله بالملائكة كما قال تعالى : فتمثل لها بشرا سويا [ مريم : 17 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - : . وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني ، فيجوز أن يمكن الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - من هذا الجني ، مع بقاء الجني على صورته التي خلق عليها ، فيوثقه كما كان سليمان - عليه السلام - يوثقهم ، ويرفع الموانع عن أبصار الناس ، فيرونه موثقا حتى يلعب به الغلمان . ويجوز أن يشكله الله تعالى في صورة جسمية محسوسة ، فيربطه ويلعب به ، ثم يمنعه من الزوال عن تلك الصورة التي تشكل فيها ، حتى يفعل الله ما هم به النبي - صلى الله عليه وسلم - . وفي هذا دليل على رؤية بني آدم الجن . وقوله تعالى : إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم [ الأعراف : 27 ] ; إخبار عن غالب أحوال بني آدم معهم ، والله تعالى أعلم .