[ ص: 8 ] ( مقدمة ) المقدمة في الأصل : صفة ، ثم استعملوها اسما لكل ما وجد فيه التقديم ، كمقدمة الجيش والكتاب ، ومقدمة الدليل والقياس ، وهي القضية التي تنتج ذلك مع قضية أخرى ، نحو كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام . ونحو ذلك . والعالم مؤلف وكل مؤلف محدث ، ونحو ذلك . ثم إن مقدمة العلم هي اسم لما تقدم أمامه ، ولما تتوقف عليه مسائله كمعرفة حدوده وغايته وموضوعه ، ومقدمة الكتاب لطائفة من كلامه تقدم أمام المقصود ، لارتباط له بها ، وانتفاع بها فيه . سواء توقف عليها العلم أو لا . وهي بكسر الدال من قدم بمعنى تقدم . قال الله سبحانه وتعالى ( {
لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } ) أي : لا تتقدموا . وبفتحها ، لأن صاحب الكتاب أو أمير الجيش قدمها ، ومنع بعض العلماء الكسر . وبعضهم اقتصر عليه .
ولما كان كل علم لا يتميز في نفسه عن بقية العلوم إلا بتميز موضوعه . وكان موضوع أصول الفقه : أخص من مطلق الموضوع . وكان العلم بالخاص مسبوقا بالعلم العام : بدأ بتعريف مطلق الموضوع بقوله ( موضوع كل علم ) شرعيا كان أو عقليا ( ما ) أي الشيء الذي ( يبحث فيه ) أي في ذلك العلم ( عن عوارضه ) أي عوارض موضوعه ( الذاتية ) أي الأحوال العارضة للذات ، دون العوارض اللاحقة لأمر خارج عن الذات . ومسائل كل علم : معرفة الأحوال العارضة لذات موضوع ذلك العلم . فموضوع علم الطب مثلا : هو بدن الإنسان ، لأنه يبحث فيه عن الأمراض اللاحقة له ، ومسائله : هي معرفة تلك الأمراض .
وموضوع علم النحو : الكلمات ، فإنه يبحث فيه عن أحوالها من حيث الإعراب والبناء . ومسائله : هي معرفة الإعراب والبناء ، وموضوع علم الفرائض : التركات ، فإنه يبحث فيه من حيث قسمتها ، ومسائله : هي معرفة حكم قسمتها ، والعلم بموضوع علم ليس بداخل في حقيقة ذلك العلم كما قلنا في بدن الإنسان والكلمات والتركات . إذا علمت ذلك : فالعوارض الذاتية هي التي تلحق الشيء لما هو هو ، أي
[ ص: 9 ] لذاته ، كالتعجب اللاحق لذات الإنسان ، أو تلحق الشيء لجزئه ، كالحركة بالإرادة اللاحقة للإنسان بواسطة أنه حيوان ، أو تلحقه بواسطة أمر خارج عن المعروض مساو للمعروض ، كالضحك العارض للإنسان بواسطة التعجب . وتفصيل ذلك : أن العارض إما أن يكون لذات الشيء ، أو لجزئه ، أو لأمر خارج عنه .
والأمر الخارج : إما مساو للمعروض ، أو أعم منه ، أو أخص ، أو مباين . أما الثلاثة الأول - وهي العارض لذات المعروض ، والعارض لجزئه ، والعارض المساوي - : فتسمى أعراضا ذاتية ، لاستنادها إلى ذات المعروض . أما العارض للذات : فظاهر . وأما العارض للجزء : فلأن الجزء داخل في الذات ، والمستند إلى ما في الذات مستند إلى الذات في الجملة . وأما العارض للأمر المساوي : فلأن المساوي يكون مستندا إلى ذات المعروض ، والعارض مستند إلى المساوي والمستند إلى المستند إلى الشيء مستند إلى ذلك الشيء ، فيكون العارض أيضا مستندا إلى الذات . والثلاثة الأخيرة العارضة لأمر خارج غير مساو للمعروض : تسمى أعراضا غريبة ; لما فيها من الغرابة بالقياس إلى ذات المعروض . ثم تارة يكون الأمر الخارج أعم من المعروض كالحركة اللاحقة للأبيض بواسطة أنه جسم ، وهو أعم من الأبيض وغيره . وتارة يكون أخص كالضحك العارض للحيوان بواسطة أنه إنسان ، وهو أخص من الحيوان . وتارة يكون مباينا للمعروض كالحرارة العارضة للماء بواسطة النار .
إذا علمت ذلك ( فموضوع ذا ) أي هذا العلم الذي هو
أصول الفقه ( الأدلة الموصلة إلى الفقه ) من الكتاب والسنة ، والإجماع والقياس ، ونحوها ; لأنه يبحث فيه عن العوارض اللاحقة لها من كونها عامة أو خاصة ، أو مطلقة أو مقيدة ، أو مجملة ، أو مبينة ، أو ظاهرة أو نصا ، أو منطوقة ، أو مفهومة ، وكون اللفظ أمرا أو نهيا ، ونحو ذلك من اختلاف مراتبها ، وكيفية الاستدلال بها ، ومعرفة هذه الأشياء : هي مسائل أصول الفقه .
وموضوع علم الفقه : أفعال العباد من حيث تعلق الأحكام الشرعية بها .
[ ص: 10 ] ومسائله : معرفة أحكامها من واجب وحرام ، ومستحب ومكروه ومباح .