صفحة جزء
بسم الله ( فصل : الرواية ) الرواية في اصطلاح العلماء ( إخبار ) يحترز به عن الإنشاء ( عن ) أمر ( عام ) من قول أو فعل ( لا يختص ) واحد منهما ( ب ) شخص ( معين ) من [ ص: 271 ] الأمة ( و ) من صفة هذا الإخبار : أنه ( لا ترافع فيه ممكن عند الحكام ) . ( وعكسه ) أي وعكس هذا المذكور ( الشهادة ) فإنها إخبار بلفظ خاص عن خاص علمه مختص بمعين يمكن الترافع فيه عند الحكام ( ومن شروط راو : عقل ) إجماعا ; إذ لا وازع لغير عاقل يمنعه من الكذب ، ولا عبارة أيضا . كالطفل ( و ) منها ( إسلام ) إجماعا لتهمة عداوة الكافر للرسول صلى الله عليه وسلم ولشرعه ( و ) منها ( بلوغ ) عند الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة ، لاحتمال كذب من لم يبلغ ، كالفاسق بل أولى ; لأنه غير مكلف ، فلا يخاف العقاب . وقال بعض أصحابنا : يتخرج في روايته روايتان . كشهادته . وروي عن الإمام أحمد رضي الله عنه : أن شهادة المميز تقبل . وعنه ابن عشر .

واختلف الصحابة والتابعون في قبول شهادته ( و ) منها ( ضبط ) لئلا يغير اللفظ والمعنى فلا يوثق به . قال الإمام أحمد رضي الله عنه : لا ينبغي لمن لا يعرف الحديث أن يحدث به . والشرط غلبة ضبطه وذكره على سهوه لحصول الظن إذا . ذكره الآمدي وجماعة . قال ابن مفلح : وهو محتمل . وفي الواضح لابن عقيل قول أحمد ، وقيل له : متى تترك حديث الرجل . ؟ قال : إذا غلب عليه الخطأ ، ولأن أئمة الحديث تركوا رواية كثير ممن ضعف ضبطه ممن سمع كثيرا ضابطا . فإن جهل حاله . فذكر الموفق في الروضة وغيره : أنها لا تقبل ; لأنه لا غالب لحال الرواة . قال ابن مفلح : وفيه نظر ، وأنه يحتمل ما قال الآمدي : من أنه يحمل على غالب حال الرواة . فإن جهل حالهم : اعتبر حاله . فإن قيل : ظاهر حال العدل ألا يروي إلا ما يضبطه . وقد أنكر على أبي هريرة الإكثار . وأجيب : بأنه لم ينكر عليه لعدم الضبط ، بل خيف ذلك لإكثاره . فإن قيل : الخبر دليل . والأصل صحته فلا يترك باحتمال ، كاحتمال حدث بعد طهارة . رد إنما هو دليل مع الظن ، ولا ظن مع تساوي المعارض واحتمال الحدث ورد على يقين الطهر ، فلم يؤثر ( و ) منها ( عدالة ) إجماعا لما سبق من الأدلة ( ظاهرا وباطنا ) عند أحمد والشافعي وغيرهما . وذكره الآمدي عن [ ص: 272 ] الأكثر . وعند القاضي وابن البناء ، وغيرهما : تكفي العدالة ظاهرا للمشقة . كما قلنا في الشهادة على رواية عن أحمد . اختارها أبو بكر عبد العزيز . وصاحب روضة الفقه من أصحابنا ( ومن روى ) حال كونه ( بالغا مسلما عدلا وقد تحمل ) حال كونه ( صغيرا ضابطا ، أو ) حال كونه ( كافرا ) ضابطا ( أو ) حال كونه ( فاسقا ) ضابطا ( قبل ) ما رواه ، لاجتماع الشروط فيه حال روايته ( وهي ) أي العدالة في اللغة : التوسط في الأمر من غير زيادة ولا نقصان ، وهي في اصطلاح أهل الشرع ( صفة ) أي كيفية نفسانية ، وتسمى قبل رسوخها حالا ( راسخة في النفس ) أي نفس المتصف بها ( تحمله ) على ملازمة التقوى والمروءة ، وتحمله أيضا على ( ترك الكبائر ) . ( ومنها ) أي من الكبائر : غيبة ونميمة . قال في شرح التحرير : اختلف في الغيبة والنميمة . هل هما من الصغائر أو من الكبائر ؟ والصحيح من المذهب أنهما من الكبائر . وقدمه ابن مفلح في أصوله ، وهو ظاهر ما قدمه في فروعه .

قال القرطبي : لا خلاف أن الغيبة من الكبائر . انتهى . وقيل : إنهما من الصغائر اختاره جماعة ، منهم صاحب الفصول والغنية والمستوعب ( و ) تحمله أيضا على ترك ( الرذائل ) المباحة . كالأكل في السوق ونحو ذلك . فلا يأتي بكبيرة للآية الكريمة في القاذف . وقيس عليه الباقي من الكبائر . ويشترط مع ذلك أن يكون ( بلا بدعة مغلظة ) وسيأتي الكلام عليها ( وتقبل رواية ) من اتصف بذلك ، ولو أنه ( قاذف بلفظ الشهادة ) قال أصحابنا وغيرهم : إن قذف بلفظ الشهادة قبلت روايته ; لأن نقص العدد ليس من جهته . زاد القاضي في العدة : وليس بصريح في القذف . وقد اختلفوا في الحد ، ويسوغ فيه الاجتهاد ، ولا ترد الشهادة بما يسوغ فيه الاجتهاد . وكذا زاد ابن عقيل . قال الشيرازي في اللمع : وأبو بكرة ومن شهد معه تقبل روايتهم ; لأنهم أخرجوا ألفاظهم مخرج الإخبار ، لا مخرج القذف . وجلدهم عمر باجتهاده ( ويحد ) القاذف بلفظ الشهادة مع قبول روايته .

قال في شرح التحرير : واتفق الناس على الرواية عن أبي بكرة . والمذهب عندهم [ ص: 273 ] يحد . وروي عن أحمد والشافعي : أنه لا يحد . قال ابن مفلح : فيتوجه من هذه الرواية بقاء عدالته . وقاله الشافعية ، وهو معنى ما جزم به الآمدي ومن وافقه ، وأنه ليس من الجرح ; لأنه لم يصرح بالقذف . وقال الشيخ تقي الدين : صرح القاضي في قياس الشبه من العدالة بعدالة من أتى بكبيرة أي واحدة لقوله تعالى { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون } وروي عن أحمد فيمن أكل الربا : إن أكثر لم يصل خلفه . قال القاضي وابن عقيل : فاعتبر الكثرة . وقال الموفق في المغني : إن أخذ صدقة محرمة وتكرر ذلك منه ، ردت روايته ( والصغائر ) وهي كل قول أو فعل محرم لا حد فيه في الدنيا ولا وعيد في الآخرة ( وهن ) مع كثرة صورهن ( سواء حكما ) أي في الحكم . قال في التحرير : ولم يفرق أصحابنا وغيرهم في الصغائر ، بل أطلقوا . فظاهره أنه لا فرق ( إن لم تتكرر تكررا يخل بالثقة بصدقه ) أي صدق الراوي ( لم تقدح ) في صحة روايته ( لتكفيرها ) أي تكفير الصغائر ( باجتناب الكبائر ومصائب الدنيا ) على الأصح في كون الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر ، وهو مذهب الجمهور . وقال الأستاذ والقاضي أبو بكر بن الباقلاني وابن فورك والقشيري والسبكي . وحكي عن الأشعرية : إن جميع الذنوب كبائر . قال القرافي : كأنهم كرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة إجلالا له ، مع موافقتهم في الجرح أنه ليس بمطلق المعصية ، بل منه ما يقدح ، ومنه ما لا يقدح . وإنما الخلاف في التسمية . انتهى . استدل الجمهور بقوله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } - الآية وبقوله صلى الله عليه وسلم ، في تكفير الصلوات الخمس والجمعة ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر ; إذ لو كان الكل كبائر لم يبق بعد ذلك ما يكفر بما ذكر . وفي الحديث { الكبائر سبع } وفي رواية { تسع - وعدها } فلو كانت الذنوب كلها كبائر لما ساغ ذلك . وما أحسن ما قال الكوراني في شرح جمع الجوامع : إن أرادوا إسقاط العدالة فقد خالفوا الإجماع . وإن أرادوا قبح المعصية نظرا إلى كبريائه تعالى ، وأن مخالفته لا تعد أمرا صغيرا . فنعم القول . انتهى .

وعلى الأصح في كون [ ص: 274 ] الصغائر سواء حكما . وقال الآمدي ، ومن وافقه : إن مثل سرقة لقمة والتطفيف بحبة ، واشتراط أخذ الأجرة على إسماع الحديث يعتبر تركه كالكبائر . وقد قال الإمام أحمد رضي الله عنه في اشتراط أخذ الأجرة : لا يكتب عنه الحديث ولا كرامة . وقاله إسحاق بن راهويه وأبو حاتم . قال ابن مفلح : ويعتبر ترك ما فيه دناءة وترك مروءة كأكله في السوق بين الناس الكثير . ومد رجليه وكشف رأسه بينهم والبول في الشوارع واللعب بالحمام وصحبة الأراذل والإفراط في المزح ، لحديث أبي مسعود البدري { إذا لم تستح فاصنع ما شئت } رواه البخاري ، يعني : إذا صنع ما شاء فلا يوثق به . انتهى .

وعلى الأصح في كون الصغائر إن لم تتكرر منه تكررا يخل الثقة بصدق الراوي لم يقدح في روايته . قال ابن قاضي الجبل في أصوله : حد الإصرار المانع في الصغائر : أن تتكرر منه تكررا يخل الثقة بصدقه . انتهى .

وقيل : يقدح تكرارها في الجملة . وقيل : ثلاثا . قاله ابن حمدان في المقنع وآداب المفتي . وقال في الترغيب وغيره : تقدح كثرة الصغائر وإدمان واحدة . وقال الموفق في المقنع : لا يدمن على صغيرة ، وهو مراد الأول . وعليه أكثر الأصحاب فالإدمان هنا كما قال ابن قاضي الجبل في أصوله كما تقدم . وعلى الأصح في كون الصغائر تكفر باجتناب الكبائر وبمصائب الدنيا لظاهر قوله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } ولما دلت عليه السنة من تكفير الصغائر بمصائب الدنيا . واختار ذلك الشيخ تقي الدين في الرد على الرافضي .

وحكاه عن الجمهور ( ويرد كاذب ولو تدين ) أي تحرز عن الكذب ( في الحديث ) عند أكثر العلماء ، منهم الإمامان مالك وأحمد وغيرهما ; لأنه لا يؤمن عليه أن يكذب فيه . وعنه ولو بكذبة واحدة . واختاره ابن عقيل في الواضح وغيره .

واحتج الإمام أحمد رضي الله عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم { رد شهادة رجل في كذبة } وإسناده جيد ، لكنه مرسل . رواه إبراهيم الحربي والخلال وجعله في التمهيد إن صح للزجر . وفيه وعيد في منامه صلى الله عليه وسلم في الصحيح . وفي الصحيحين : [ ص: 275 ] الزجر عن شهادة الزور ، وأنها من الكبائر . وذكر في الفصول في الشهادة : أن بعضهم اختار هذه الرواية . وقاس عليها بقية الصغائر . والصحيح من المذهب : أن الكذبة الواحدة لا تقدح للمشقة وعدم دليله . وذكر ابن عقيل في الشهادة من الفصول : أنه ظاهر مذهب أحمد . وعليه جمهور أصحابه . وقياس بقية الصغائر عليها بعيد ، لأن الكذب معصية فيما تحصل به الشهادة ، وهو الخبر العام . انتهى ( وتقدح كذبة ) واحدة ( فيه ) أي في الحديث ( ولو تاب ) منها . نص على ذلك الإمام أحمد رضي الله عنه . وقال : لا تقبل توبته مطلقا . وقاله القاضي أبو يعلى وغيره من أصحابنا وغيرهم ، قال : لأنه زنديق . فتخرج توبته على توبته وفارق الشهادة ; لأنه قد يكذب فيها لرشوة إلى أرباب الدنيا . وقال ابن عقيل : هذا فرق بعيد ; لأن الرغبة إليهم بأخبار الرجاء ، أو الوعيد غاية الفسق ، وظاهر كلام جماعة من أصحابنا : أن توبته تقبل . وقاله كثير من العلماء ، لكن في غير ما كذب فيه . كتوبته فيما أقر بتزويره . وقبلها الدامغاني الحنفي فيه أيضا . قال : لأن ردها ليس بحكم ، ورد الشهادة حكم . قال القاضي أبو يعلى : سألت أبا بكر الشاشي عنه . فقال : لا يقبل خبره فيما رد ، ويقبل في غيره اعتبارا بالشهادة . قال : وسألت قاضي القضاة الدامغاني . فقال : يقبل حديثه المردود وغيره ، بخلاف شهادته إذا ردت ثم تاب لم تقبل تلك خاصة . قال : لأن هناك حكما من الحاكم بردها . فلا ينقض ، ورد الخبر ممن روي له ليس بحكم . انتهى .

قال الشيخ تقي الدين : وهذا يتوجه لو رددنا الحديث لفسقه ، بل ينبغي أن يكون هو المذهب . فأما إذا علمنا كذبه فيه فأين هذا من الشهادة ؟ فنظيره أن يتوب من شهادة زور ويقر فيها بالتزوير ( والكبيرة ) عند الإمام أحمد رضي الله عنه ، ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( ما فيه حد في الدنيا أو ) فيه ( وعيد ) خاص ( في الآخرة . وزيد ) أي وزاد الشيخ تقي الدين وأتباعه ( أو ) ما فيه ( لعنة أو غضب أو نفي إيمان ) اختلف الناس في الكبيرة ، هل لها ضابط تعرف به أو لا ؟ فذهب بعض العلماء إلى أنها لا يعرف ضابطها قال القاضي في المعتمد : معنى الكبيرة أن عقابها أعظم والصغيرة أقل ، ولا يعلمان إلا بتوقيف . قال الواحدي : الصحيح أن الكبائر ليس لها حد تعرف به ، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها ، [ ص: 276 ] ولكن الله تعالى أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه ، رجاء أن تجتنب الكبائر . نظيره إخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة في يوم الجمعة وقيام الساعة ونحو ذلك . وذهب الأكثرون إلى أن لها ضابطا معروفا ، ثم اختلفوا في ذلك الضابط على أقوال . الأول - وهو المعتمد - أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة ، لوعد الله مجتنبها بتكفير الصغائر . قال ابن مفلح : ولأنه معنى قول ابن عباس . ذكره أحمد وأبو عبيد . وألحق بذلك ما فيه لعنة أو غضب أو نفي إيمان ; لأنه لا يجوز أن يقع نفي الإيمان لأمر مستحب ، بل لكمال واجب .

قال الشيخ تقي الدين : وليس لأحد أن يحمل كلام أحمد إلا على معنى يبين من كلامه ما يدل على أنه مراده ، لا على ما يحتمله اللفظ من كلام كل أحد . القول الثاني - وهو لسفيان الثوري - أن ما تعلق بحق الله تعالى صغيرة ، وما تعلق بحق الآدمي كبيرة . والقول الثالث - ونسب إلى الأكثر - أن الكبيرة ما فيه وعيد شديد بنص كتاب أو سنة . الرابع : ما أوجب حدا فهو كبيرة وغيره صغيرة ، وهو لجماعة . الخامس - وهو للهروي - أن الكبيرة كل معصية يجب في جنسها حد من قتل وغيره . وترك كل فريضة مأمور بها على الفور ، والكذب في الشهادة والرواية وفي اليمين . القول السادس - وهو لإمام الحرمين - أن الكبيرة كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة . ورجحه كثير من العلماء . ومجموعة ما جاء منصوصا عليه في الأحاديث من الكبائر خمس وعشرون : الشرك بالله تعالى ، وقتل النفس بغير حق ، والزنا ، وأفحشه بحليلة الجار ، والفرار من الزحف ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، والاستطالة في عرض المسلم بغير حق ، وشهادة الزور ، واليمين الغموس ، والنميمة ، والسرقة ، وشرب الخمر ، واستحلال بيت الله الحرام ، ونكث الصفقة ، وترك السنة ، والتعرب بعد الهجرة ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله ، ومنع ابن السبيل من فضل الماء ، وعدم التنزه من البول ، وعقوق الوالدين ، والتسبب إلى شتمهما ، والإضرار في [ ص: 277 ] الوصية

التالي السابق


الخدمات العلمية