صفحة جزء
( باب : النهي مقابل للأمر في كل حاله )

أي في كل الذي للأمر من كونه من المتن الذي يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع . . ومن كونه نوعا من الكلام وغير ذلك ( وصيغته ) ( لا تفعل . وترد ) لمعان كثيرة : أحدها : كونها ( لتحريم ) وهي حقيقة فيه فقط . نحو قوله تعالى [ ص: 338 ] { ولا تقتلوا أنفسكم } وقوله تعالى { ولا تقربوا الزنا } وقوله تعالى { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } ( و ) الثاني : ل ( كراهة ) نحو قوله صلى الله عليه وسلم { لا يمس أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول } ومثله المحلى وغيره بقوله تعالى { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } ( و ) الثالث كونها ل ( تحقير ) نحو قوله تعالى { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم } ( و ) الرابع : كونها ل ( بيان العاقبة ) نحو قوله تعالى { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون } ( و ) الخامس : كونها ل ( دعاء ) نحو قوله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } وقوله تعالى { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } ( و ) السادس : كونها ل ( يأس ) نحو قوله تعالى { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } وبعضهم مثل به للاحتقار ( و ) السابع كونها ل ( إرشاد ) نحو قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } والمراد : أن الدلالة على الأحوط ترك ذلك . قيل : وفيه نظر ، بل هي للتحريم ، والأظهر الأول . لأن الأشياء التي يسأل عنها السائل لا يعرف حين السؤال هل تؤدي إلى محذور أم لا ؟ ولا تحريم إلا بالتحقق ( و ) الثامن كونها ( لأدب ) نحو قوله تعالى { ولا تنسوا الفضل بينكم } ولكن هذا راجع إلى الكراهة ; إذ المراد لا تتعاطوا أسباب النسيان . فإن نفس النسيان لا يدخل تحت القدرة حتى ينهى عنه . وبعضهم يعد من ذلك الخبر ، وليس للخبر مثال صحيح . ومثله بعضهم بقوله تعالى { لا يمسه إلا المطهرون } وهذا المثال إنما هو للخبر بمعنى النهي ، لا للنهي بمعنى الخبر ( و ) التاسع : كونها ل ( تهديد ) كقولك لمن تهدده : أنت لا تمتثل أمري . هكذا مثله في شرح التحرير . والذي يظهر : أن " لا " هنا نافية ، وإن لم تخرج عن معنى التهديد .

والأولى تمثيله بقول السيد لعبده - وقد أمره بفعل شيء فلم يفعله - لا تفعله ، فإن عادتك أن لا تفعله بدون المعاقبة ( و ) العاشر : كونها ل ( إباحة الترك ) كالنهي [ ص: 339 ] بعد الإيجاب على قول تقدم في أن النهي بعد الأمر للإباحة . والصحيح خلافه ( و ) الحادي عشر : كونها ل ( لالتماس ) كقولك لنظيرك : لا تفعل ، عند من يقول إن صيغة الأمر لها ثلاث صفات : أعلى ، ونظير ، وأدون . وكذلك النهي ( و ) الثاني عشر كونها ل ( لتصبر ) نحو قوله تعالى { لا تحزن إن الله معنا } ( و ) الثالث عشر : كونها ل ( إيقاع أمن ) نحو قوله تعالى { ولا تخف إنك من الآمنين } { لا تخف نجوت من القوم الظالمين } ولكن قيل : إنه راجع إلى نظير ، كأنه قال : أنت لا تخاف ( و ) الرابع عشر : كونها . ل ( تسوية ) نحو قوله تعالى " { فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم } ( و ) الخامس عشر : كونها ل ( تحذير ) نحو قوله تعالى { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ( فإن ) ( تجردت ) صيغة النهي عن المعاني المذكورة والقرائن ( ف ) هي ( لتحريم ) عند الأئمة الأربعة وغيرهم . وبالغ الشافعي رضي الله عنه في إنكار قول من قال : إنها للكراهة ، وقيل : صيغة النهي تكون بين التحريم والكراهة . فتكون من المجمل . وقيل : تكون للقدر المشترك بين التحريم والكراهة . فتكون حقيقة في كل منهما .

وقيل : بالوقف لتعارض الأدلة ( و ) ورود صيغة النهي ( مطلقة عن شيء لعينه ) أي لعين ذلك الشيء كالكفر والظلم والكذب ونحوها من المستقبح لذاته : يقتضي فساده شرعا عند الأئمة الأربعة والظاهرية وبعض المتكلمين . قال الخطابي : هذا مذهب العلماء في قديم الدهر وحديثه ، لحديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } واستدل لذلك بأن العلماء لم يزالوا يستدلون على الفساد بالنهي ، كاحتجاج ابن عمر رضي الله عنهما بقوله تعالى { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } واستدلال الصحابة . رضي الله عنهم . على فساد عقود الربا بقوله صلى الله عليه وسلم { لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل } - الحديث " وعلى فساد نكاح المحرم بالنهي عنه . وقد شاع وذاع ذلك من غير نكير . فإن قيل : احتجاجهم إنما هو على التحريم لا على الفساد . فالجواب : أن احتجاجهم على التحريم [ ص: 340 ] والفساد معا . ألا ترى إلى حديث بيع الصاعين من التمر بالصاع . وقوله صلى الله عليه وسلم " { أوه عين الربا } وذلك بعد القبض . فأمر برده . وبقوله صلى الله عليه وسلم { من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد } والرد إذا أضيف إلى العبادات اقتضى عدم الاعتداد بها ، وإن أضيف إلى العقود اقتضى فسادها . فإن قيل : معناه ليس بمقبول ولا طاعة .

قلنا : الحديث يقتضي رد ذاته إن أمكن ، وإن لم يمكن اقتضى رد متعلقه . فإن قيل : هو من أخبار الآحاد ، والمسألة من الأصول . قيل : تقوى بالقبول . والمسألة من باب الفروع . واحتج الشافعي . رضي الله عنه . بقول النبي صلى الله عليه وسلم { لا صلاة إلا بطهور ، ولا نكاح إلا بولي ، ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل } ونحو ذلك . قال : ومعلوم أنه لم يرد بذلك نفي نفس الفعل ; لأن الفعل موجود من حيث المشاهدة ، وإنما أراد نفي حكمه . فإذا وجد الفعل على الصفة المنهي عنها لم يكن له حكم .

فوجوده كعدمه . وإذا كان كذلك لم يؤثر إيجاده . وكان . الفرض الأول على عادته ، ويدل للفساد غير ما تقدم من الكتاب والسنة أيضا : الاعتبار والمناقضة .

أما الاعتبار : فلأن النهي يدل على تعلق مفسدة بالمنهي عنه ، أو بما . يلازمه ; لأن الشارع حكيم لا ينهى عن المصالح . وفي القضاء بإفسادها إعدام لها بأبلغ الطرق ولأن النهي عنها مع ربط الحكم بها يفضي إلى التناقض في الحكمة ; لأن نصبها سببا يمكن من التوسل ، والنهي يمنع من التوسل ، ولأن حكمها مقصود الآدمي ومتعلق غرضه ، فتمكينه منه حث على تعاطيه . والنهي منع من التعاطي ، ولأنه لو لم يفسد المنهي عنه لزم من نفيه لكونه مطلوب الترك بالنهي حكمه للنهي ، ومن ثبوته لكون الفرض جواز التصرف ، وصحته حكم الصحة . وذلك باطل .

أما الملازمة : فلاستحالة خلو الأحكام الشرعية عن الحكمة . وأما بطلان الثاني : فلأن اجتماعهما يؤدي إلى خلو الحكم عن الحكمة ، وهو خرق للإجماع . لأن حكمة النهي إما أن تكون راجحة على حكم الصحة أو مرجوحة أو مساوية ; ولو كان كذلك لامتنع النهي . فلم يبق إلا أن تكون راجحة على حكم الصحة . [ ص: 341 ] وفي رجحان النهي تمتنع الصحة فإن قلت : الترجيح غايته أن يناسب نفي الصحة ولا يلزم من ذلك نفي الصحة إلا بإيراد شاهد بالاعتبار . ولو ظهر كان الفساد لازما من القياس . قلنا : القضاء بالفساد لعدم الصحة ، فلا يفتقر إلى شاهد الاعتبار ، ولأن في الشرعيات منهيات باطلة ، ولا مستند لها إلا أن النهي للأصل . وأما دليل الفساد بالمناقضة : فلأن المخالفين أبطلوا النكاح في العدة ونكاح المحرم ، والمحاقلة والمزابنة والمنابذة والملامسة ، والعقد على منكوحة الأب لقوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } . { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } والصلاة في المكان النجس والثوب النجس ، وحالة كشف العورة ، إلى غير ذلك ، ولا مستند إلا النهي . قالوا : لو دل الفساد لناقض التصريح بالصحة في قوله : نهيتك عن فعل كذا فإن فعلت صح . قلنا : الجواب عنه أن المنع من الفساد من التصريح بالصحة لما ذكرنا من حكمة الفساد ، ولأنه لو سلم فالتصريح بخلاف الظاهر ، ولا تناقض ، نحو : رأيت أسدا يرمي . وأيضا فإن قوله : يشبه المستدرك والمستثنى . فكأنه قال : لكنك إن فعلت صح ، أو قوله : إلا أنك إذا فعلت صح . وليس في كلام الشارع شيء من ذلك . وكذا لو كان النهي لوصف في المنهي عنه لازم له . وهو ما أشير إليه بقوله ( أو وصفه ) كالنهي عن نكاح الكافر للمسلمة وعن بيع العبد المسلم من كافر .

فإن النهي عن ذلك ( يقتضي فساده شرعا ) عندنا وعند الشافعية ومن وافقهم .

فإن ذلك يلزم منه إثبات القيام والاستيلاء والسبيل للكافر على المسلم ، فيبطل هذا الوصف . اللازم له . وعند الحنفية ومن وافقهم : أن النهي يقتضي صحة الشيء وفساد وصفه . فالمحرم عندهم وقوع الصوم في العيد لا الواقع . فالفعل حسن ; . لا أنه صوم قبيح لوقوعه في العيد . فهو عندهم طاعة يصح النذر به ، ووصف قبحه لازم للفعل لا للاسم ، ولا يلزم بالشروع . وقيل لأبي الخطاب في نذر صوم يوم العيد نهيه عليه الصلاة والسلام عن صوم يوم العيد يدل على الفساد ؟ فقال : هو [ ص: 342 ] حجتنا ; لأن النهي عما لا يكون محال ، كنهي الأعمى عن النظر ، فلو لم يصح لما نهى عنه ( وكذا ) لو كان النهي عن الشيء ( لمعنى في غيره ك ) النهي عن عقد بيع ( بعد نداء جمعة ) وكالوضوء بماء مغصوب ، يعني فإنه يقتضي فساده عند الإمام أحمد . رضي الله عنه . وأكثر أصحابه والمالكية والظاهرية والجبائية . وخالف في ذلك الأكثر ، وهو مذهب الشافعي . قال الآمدي : لا خلاف أنه لا يقتضي الفساد إلا ما نقل عن مالك وأحمد . ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات . وألزم القاضي الشافعية ببطلان البيع بالتفرقة بين والدة وولدها ( لا ) إن كان النهي ( عن غيره ) أي لمعنى في غير المنهي عنه غير عقد . وكان ذلك ( لحق آدمي ، كتلق ) للركبان ( و ) ك ( نجش ) وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها لغير المشتري ( و ) ك ( سوم ) على سوم مسلم ( و ) ك ( خطبة ) ولو لذمية على خطبة مسلم ( و ) ك ( تدليس ) مبيع ، كالتصرية ونحوها . فإن العقد يصح مع ذلك عندنا وعند الأكثر . قال ابن مفلح في أصوله : وحيث قال أصحابنا " اقتضى النهي الفساد " فمرادهم : ما لم يكن النهي لحق آدمي يمكن استدراكه . فإن كان ولا مانع . كتلقي الركبان والنجش . فإنهما يصحان على الأصح عندنا وعند الأكثر . لإثبات الشرع الخيار في التلقي ( والنهي يقتضي الفور والدوام ) عند أصحابنا والأكثر ، ويؤخذ من كونه للدوام : كونه للفور ; لأنه من لوازمه ، ولأن من نهي عن فعل بلا قرينة ففعله في أي وقت كان عد مخالفا لغة وعرفا . ولهذا لم يزل العلماء يستدلون به من غير نكير . وحكاه أبو حامد وابن برهان وأبو زيد الدبوسي إجماعا .

والفرق بينه وبين الأمر : أن الأمر له حد ينتهي إليه فيقع الامتثال فيه بالمرة . وأما الانتهاء عن المنهي عنه فلا يتحقق إلا باستيعابه في العمر فلا يتصور فيه تكرار ، بل بالاستمرار به يتحقق الكف . وقال بعضهم : إن النهي منقسم إلى الدوام كالزنا ، وإلى غيره كالحائض عن الصلاة . فكان للقدر المشترك ، دفعا للاشتراك والمجاز . ورد بأن عدم الدوام لقرينة ، هي تقييده بالحيض ، وكونه حقيقة للدوام [ ص: 343 ] أولى من المرة لدليلنا ، ولإمكان التجوز فيه عن بعضه لاستلزامه له بخلاف العكس ( و ) قول الناهي عن شيء ( لا تفعله مرة يقتضي تكرار الترك ) قدمه ابن مفلح في أصوله . فلا يسقط النهي بتركه مرة . وعند القاضي والأكثر يسقط بمرة ، وهو المعروف عند الشافعية . وقدمه في جمع الجوامع ، حتى قال شارحه ابن العراقي عن القول بأنه يقتضي التكرار : غريب لم نره لغير ابن السبكي . وقطع به البرماوي في شرح منظومته . والظاهر أنهما لم يطلعا على كلام الحنابلة في ذلك ( ويكون ) النهي ( عن ) شيء ( واحد ) فقط ، وهو كثير ( و ) عن ( متعدد ) أي شيئين فأكثر ( جمعا ) أي عن الهيئة الاجتماعية . فيكون له فعل أيها شاء على انفراده كالجمع بين الأختين ، وبين المرأة وعمتها ، وبين المرأة وخالتها ( وفرقا ) وهو النهي عن الافتراق دون الجمع . كالنهي عن . الاقتصار على أحد شيئين . نحو قوله صلى الله عليه وسلم { لا تمش في نعل واحدة } فالمنهي عنه هنا التفريق بين حالتي الرجلين ، لا عن لبسهما معا ، ولا عن تحفيفهما معا . ولذلك قال " { لينعلهما جميعا أو ليحفهما جميعا } ( و ) يكون النهي أيضا عن متعدد ( جميعا ) ومن أمثلة النهي لهذه المسألة وغيرها : لا تأكل السمك وتشرب اللبن . فإنك إن جزمت الفعلين كان كل منهما متعلق النهي . فيكون النهي عنهما جميعا ، وإن نصبت الثاني مع جزم الأول كان متعلق النهي الجمع بينهما ، وكل واحد منهما غير منهي عنه بانفراد ، وإن جزمت الأول ورفعت الثاني كان الأول متعلق النهي فقط في حالة ملابسة الثاني .

ولما فرغ من الكلام على الأمر والنهي اللذين حقهما التقديم لتعلقهما بنفس الخطاب الشرعي . شرع في الكلام على العموم والخصوص المتعلقين بمدلول الخطاب باعتبار المخاطب به فقال :

التالي السابق


الخدمات العلمية