القسم الثاني من الأخبار ما يعلم كذبه
من الأخبار ما يعلم كذبه وهي أربعة :
الأول :
ما يعلم خلافه بضرورة العقل أو نظره أو الحس والمشاهدة أو أخبار التواتر ، وبالجملة ما خالف المعلوم بالمدارك الستة المذكورة ، كمن أخبر عن الجمع بين الضدين وإحياء الموتى في الحال وأنا على جناح نسر أو في لجة بحر وما يحس خلافه .
الثاني :
ما يخالف النص القاطع من الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة ، فإنه ورد مكذبا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللأمة .
الثالث :
ما صرح بتكذيبه جمع كثير يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب ، إذا
[ ص: 114 ] قالوا : حضرنا معه في ذلك الوقت ، فلم نجد ما حكاه من الواقعة أصلا .
الرابع :
ما سكت الجمع الكثير عن نقله والتحدث به مع جريان الواقعة بمشهد منهم ومع إحالة العادة السكوت عن ذكره لتوفر الدواعي على نقله ، كما لو أخبر مخبر بأن أمير البلدة قتل في السوق على ملأ من الناس ولم يتحدث أهل السوق به فيقطع بكذبه ، إذ لو صدق لتوفرت الدواعي على نقله ولأحالت العادة اختصاصه بحكايته ، وبمثل هذه الطريقة عرفنا كذب من ادعى معارضة القرآن ونص الرسول على نبي آخر بعده ، وأنه أعقب جماعة من الأولاد الذكور ، ونصه على إمام بعينه على ملأ من الناس ، وفرضه صوم شوال وصلاة الضحى وأمثال ذلك مما إذا كان أحالت العادة كتمانه .
فإن قيل فقد تفرد الآحاد بنقل ما تتوفر الدواعي عليه حتى وقع الخلاف فيه ، كإفراده صلى الله عليه وسلم الحج أو قرانه ، وكدخوله
الكعبة وصلاته فيها ، وإنه عليه السلام نكح
ميمونة وهو حرام ، وإنه دخل
مكة عنوة ، وقبوله شهادة الأعرابي وحده على رؤية الهلال ، وانفراد الأعرابي بالرؤية حتى لم يشاركه أحد فيه ، وانشقاق القمر ولم ينقله إلا
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود رضي الله عنه وعدد يسير معه وكان ينبغي أن يراه كل مؤمن وكافر وباد وحاضر ، ونقل
النصارى معجزات
عيسى عليه السلام ولم ينقلوا كلامه في المهد وهو من أعظم العلامات ، ونقلت الأمة القرآن ولم ينقلوا بقية معجزات الرسول عليه السلام كنقل القرآن في الشيوع ، ونقل الناس أعلام الرسل ولم ينقلوا أعلام
شعيب عليه السلام ، ونقلت الأمة سور القرآن ولم تنقل المعوذتين نقل غيرهما حتى خالف
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود رضي الله عنه في كونهما من القرآن وما تعم به البلوى من اللمس والمس أيضا .
فكل هذا نقض على هذه القاعدة . والجواب أن إفراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرانه ليس مما يجب أن ينكشف وأن ينادي به رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكافة ، بل لا يطلع عليه إلا من أطلعه عليه أو على نيته بإخباره إياه . نعم ظهر على الاستفاضة تعليمه الناس الإفراد والقران جميعا . وأما دخول
الكعبة وصلاته فيها فقد يكون ذلك مع نفر يسير ومع واحد واثنين ولا يقع شائعا ، كيف ولو وقع شائعا لم تتوفر الدواعي على دوام نقله لأنه ليس من أصول الدين ولا من فرائضه ومهماته ؟ وأما دخوله
مكة عنوة فقد صح على الاستفاضة دخوله متسلحا مع الألوية والأعلام وتمام التمكن والاستيلاء وبذله الأمان لمن دخل دار
nindex.php?page=showalam&ids=12026أبي سفيان ولمن ألقى سلاحه واعتصم
بالكعبة وكل ذلك غير مختلف فيه ولكن استدل بعض الفقهاء بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ودى قوما قتلهم
nindex.php?page=showalam&ids=22خالد بن الوليد رضي الله عنه على أنه كان صلحا .
ووقوع مثل هذه الشبهة للآحاد ممكن إلى أن تزال بالنظر ، وأن يكون ذلك بنهي خاص عن قوم مخصوصين ولسبب مخصوص . وأما انفراد الأعرابي برؤية الهلال فممكن ، وقد يقع مثل ذلك في زماننا في الليلة الأولى لخفاء الهلال ودقته ، فينفرد به من يحتد بصره وتصدق في الطلب رغبته ويقع على موضع الهلال بصره عن معرفة أو اتفاق . وأما انشقاق القمر فهي آية ليلية وقعت والناس نيام غافلون ، وإنما كان في لحظة فرآه من ناظره النبي صلى الله عليه وسلم من قريش ونبهه على النظر له وما انشق منه إلا شعبة ، ثم عاد صحيحا في لحظة ، فكم من انقضاض كوكب وزلزلة وأمور هائلة من ريح
[ ص: 115 ] وصاعقة بالليل لا يتنبه له إلا الآحاد على أن مثل هذا إنما يعلمه من قيل له انظر إليه فانشق عقيب القول والتحدي ، ومن لم يعلم ذلك ووقع عليه بصره ربما توهم أنه خيال انقشع أو كوكب كان تحت القمر فانجلى القمر عنه أو قطعة سحاب سترت قطعة من القمر ، فلهذا لم يتواتر نقله .
وأما نقلهم القرآن دون سائر الأعلام فذلك لأمرين أحدهما : أن الدواعي لا تتوفر بعد ثبوت النبوة بالقرآن واستقلالها به على نقل ما يقع بعده بحيث تقع المداومة عليه اكتفاء بثبوتها بالقرآن الذي هو أعظم الآيات ; ولأن غير القرآن إنما ظهر في عمر كل واحد مرة واحدة وربما ظهر بين يدي نفر يسير ، والقرآن كان يردده طول عمره مرة بعد أخرى ويلقيه على كافتهم قصدا ويأمرهم بحفظه والتلاوة له والعمل بموجبه .
وأما المعوذتان فقد ثبت نقلهما شائعا من القرآن كسائر السور
nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود رضي الله عنه لم ينكر كونهما من القرآن لكن أنكر إثباتهما في المصحف وإثبات الحمد أيضا لأنه كانت السنة عنده أن لا يثبت إلا ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإثباته وكتبته ، ولما لم يجده كتب ذلك ولا سمع أمره به أنكره . وهذا تأويل وليس جحدا لكونه قرآنا ، ولو جحد ذلك لكان فسقا عظيما لا يضاف إلى مثله ولا إلى أحد من الصحابة .
وأما ترك
النصارى نقل كلام
عيسى عليه السلام في المهد فلعله لم يتكلم إلا بحضرة نفر يسير ومرة واحدة لتبرئة
مريم عليها السلام عما نسبوها إليه ، فلم ينتشر ذلك ولم يحصل العلم بقول من سمع ذلك منهم فاندرس فيما بينهم . وأما
شعيب ومن يجري مجراه من الرسل عليهم السلام فلم يكن لهم شريعة ينفردون بها ، بل كانوا يدعون إلى شريعة من قبلهم ، فلم تتوفر الدواعي على نقل معجزاتهم إذ لم يكن لهم معجزات ظاهرة ، لكن ثبت صدقهم بالنص والتوقيف من نبي ذي معجزة .
وأما الخبر عن اللمس والمس للذكر وما تعم به البلوى ، فيجوز أن يخبر به الرسول عليه السلام عددا يسيرا ثم ينقلونه آحادا ولا يستفيض ، وليس ذلك مما يعظم في الصدور وتتوفر الدواعي على التحدث به دائما .