مسألة
يتصور دخول العوام في الإجماع ،
فإن الشريعة تنقسم إلى ما يشترك في دركه العوام والخواص كالصلوات الخمس ووجوب الصوم والزكاة والحج ، فهذا مجمع عليه ، والعوام وافقوا الخواص في الإجماع ، وإلى ما يختص بدركه الخواص كتفصيل أحكام الصلاة والبيع والتدبير والاستيلاد ،
فما أجمع عليه الخواص فالعوام متفقون على أن الحق فيه
ما أجمع عليه أهل الحل والعقد لا يضمرون خلافا أصلا فهم موافقون أيضا فيه . ويحسن تسمية ذلك إجماع الأمة قاطبة ، كما أن
الجند إذا حكموا جماعة من أهل الرأي والتدبير في مصالحة أهل قلعة فصالحوهم على شيء يقال هذا باتفاق جميع الجند . فإذا كل مجمع عليه من المجتهدين فهو مجمع عليه من جهة العوام وبه يتم إجماع الأمة . فإن قيل : فلو
خالف عامي في واقعة أجمع عليها الخواص من أهل العصر فهل ينعقد الإجماع دونه ؟ إن كان ينعقد فكيف خرج العامي من الأمة ، وإن لم ينعقد فكيف يعتد بقول العامي ؟
قلنا : قد اختلف الناس فيه فقال قوم : منعقد لأنه من الأمة فلا بد من تسليمه بالجملة وبالتفصيل وقال آخرون ، وهو الأصح : إنه ينعقد بدليلين أحدهما : أن العامي ليس أهلا لطلب الصواب ، إذ ليس له آلة هذا الشأن فهو كالصبي والمجنون في نقصان الآلة ; ولا يفهم من عصمة الأمة من الخطأ إلا من يتصور منه الإصابة لأهليته والثاني ، وهو الأقوى : أن العصر الأول من الصحابة قد أجمعوا على أنه لا عبرة بالعوام في هذا الباب ، أعني خواص الصحابة وعوامهم ; ولأن العامي إذا قال قولا علم أنه يقوله عن جهل وأنه ليس يدري ما يقول وأنه ليس أهلا للوفاق والخلاف فيه . وعن هذا لا يتصور صدور هذا من عامي عاقل ; لأن العاقل يفوض ما لا يدري إلى من يدري ، فهذه صورة فرضت ولا وقوع لها أصلا . ويدل
[ ص: 144 ] على انعقاد الإجماع أن العامي يعصي بمخالفته العلماء ويحرم ذلك عليه ، ويدل على عصيانه ما ورد من ذم الرؤساء الجهال إذا ضلوا وأضلوا بغير علم ، وقوله تعالى : {
لعلمه الذين يستنبطونه منهم } فردهم عن النزاع إلى أهل الاستنباط . وقد وردت أخبار كثيرة بإيجاب
المراجعة للعلماء وتحريم
فتوى العامة بالجهل والهوى ، وهذا لا يدل على انعقاد الإجماع دونهم ، فإنه يجوز أن يعصي ، بالمخالفة كما يعصي من يخالف خبر الواحد ، ولكن يمتنع وجود الإجماع لمخالفته والحجة في الإجماع ، فإذا امتنع بمعصية أو بما ليس بمعصية فلا حجة وإنما الدليل ما ذكرنا من قبل
مسألة : إذا قلنا لا يعتبر
قول العوام لقصور آلتهم ، فرب متكلم ونحوي ومفسر ومحدث هو ناقص الآلة في درك الأحكام .
فقال قوم : لا يعتد إلا بقول أئمة المذاهب المستقلين بالفتوى
nindex.php?page=showalam&ids=13790كالشافعي nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك nindex.php?page=showalam&ids=11990وأبي حنيفة وأمثالهم من الصحابة والتابعين ، ومنهم من ضم إلى الأئمة الفقهاء الحافظين لأحكام الفروع الناهضين بها ، لكن أخرج الأصولي الذي لا يعرف تفاصيل الفروع ولا يحفظها .
والصحيح أن الأصولي العارف بمدارك الأحكام وكيفية تلقيها من المفهوم والمنظوم وصيغة الأمر والنهي والعموم وكيفية تفهيم النصوص والتعليل أولى بالاعتداد بقوله من الفقيه الحافظ للفروع ، بل ذو الآلة من هو متمكن من درك الأحكام إذا أراد وإن لم يحفظ الفروع ، والأصولي قادر عليه والفقيه الحافظ للفروع لا يتمكن منه .
وآية أنه لا يعتبر حفظ الفروع أن
nindex.php?page=showalam&ids=18العباس nindex.php?page=showalam&ids=15والزبير nindex.php?page=showalam&ids=55وطلحة nindex.php?page=showalam&ids=37وسعدا nindex.php?page=showalam&ids=38وعبد الرحمن بن عوف nindex.php?page=showalam&ids=85وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل nindex.php?page=showalam&ids=5وأبا عبيدة بن الجراح وأمثالهم ممن لم ينصب نفسه للفتوى ولم يتظاهر بها تظاهر العبادلة وتظاهر
nindex.php?page=showalam&ids=8علي nindex.php?page=showalam&ids=47وزيد بن ثابت nindex.php?page=showalam&ids=32ومعاذ كانوا يعتدون بخلافهم لو خالفوا ، وكيف لا وكانوا صالحين للإمامة العظمى ولا سيما لكون أكثرهم في الشورى ؟ وما كانوا يحفظون الفروع بل لم تكن الفروع موضوعة بعد ، لكن عرفوا الكتاب والسنة وكانوا أهلا لفهمهما ، والحافظ للفروع قد لا يحفظ دقائق فروع الحيض والوصايا ، فأصل هذه الفروع كهذه الدقائق فلا يشترط حفظها فينبغي أن
يعتد بخلاف الأصولي وبخلاف الفقيه المبرز لأنهما ذوا آلة على الجملة يقولان ما يقولان عن دليل .
أما النحوي والمتكلم فلا يعتد بهما لأنهما من العوام في حق هذا العلم ، إلا أن يقع الكلام في مسألة تنبني على النحو أو على الكلام . فإن قيل : فهذه المسألة قطعية أم اجتهادية ؟
قلنا : هي اجتهادية ، ولكن إذا جوزنا أن يكون قوله إذا لم يخالف هؤلاء ، أما خلاف العوام فلا يقع ولو وقع فهو قول باللسان وهو معترف بكونه جاهلا بما يقول ، فبطلان قوله مقطوع به كقول الصبي فأما هذا فليس كذلك .
فإن قيل : فإذا
قلد الأصولي الفقهاء فيما اتفقوا عليه في الفروع وأقر بأنه حق هل ينعقد الإجماع ؟
قلنا : نعم لأنه لا مخالفة وقد وافق الأصولي جملة وإن لم يعرف التفصيل ، كما أن الفقهاء اتفقوا على أن
ما أجمع عليه المتكلمون في باب الاستطاعة والعجز والأجسام والأعراض والضد والخلاف فهو صواب ، فيحصل الإجماع بالموافقة الجملية كما يحصل من العوام ; لأن كل فريق كالعامي بالإضافة إلى ما لم يحصل علمه وإن حصل علما آخر .
[ ص: 145 ]