القسم الرابع من النظر في الصيغة
القول في العام ، والخاص ، ويشتمل على مقدمة ، وخمسة أبواب :
المقدمة : القول في
حد العام ، والخاص .
ومعناهما اعلم أن العموم ، والخصوص من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعاني ، والأفعال ، ، والعام عبارة عن اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدا مثل : الرجال ، والمشركين ، " ومن دخل الدار فأعطه درهما " ونظائره كما سيأتي تفصيل صيغ العموم ، واحترزنا بقولنا من جهة واحدة عن قولهم ضرب زيد عمرا ، وعن قولهم ضرب زيدا عمرو ; فإنه يدل على شيئين ، ولكن بلفظين لا بلفظ واحد ، ومن جهتين لا من جهة واحدة ، واعلم أن اللفظ إما خاص في ذاته مطلقا كقولك : زيد ، وهذا الرجل ، وإما عام مطلقا كالمذكور ، والمعلوم ، إذ لا يخرج منه موجود ، ولا معدوم ، وإما عام بالإضافة كلفظ المؤمنين " فإنه عام بالإضافة إلى آحاد المؤمنين خاص بالإضافة إلى جملتهم إذ يتناولهم دون المشركين ، فكأنه يسمى عاما من حيث شموله لما شمله خاصا من حيث اقتصاره على ما شمله وقصوره عما لم يشمله .
، ومن هذا الوجه يمكن أن يقال : وليس في الألفاظ عام مطلق لأن لفظ المعلوم لا يتناول المجهول ، والمذكور لا يتناول المسكوت عنه . فإن قيل : فلم قلتم : إن العموم من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعاني ، والأفعال ؟ والعطاء فعل وقد تعطي عمرا ، وزيدا ، وتقول : عممهما بالعطاء ، والوجود معنى يعم الجواهر ، والأعراض ؟
قلنا عطاء زيد متميز عن عطاء عمرو من حيث إنه فعل ، فليس في الوجود فعل واحد هو عطاء ، وتكون نسبته إلى زيد ، وعمرو واحدة . وكذلك وجود السواد يفارق وجود البياض ، وليس الوجود معنى واحدا حاصلا مشتركا بينهما ، وإن كانت حقيقته واحدة في العقل ، وعلوم الناس وقدرهم ، وإن كانت مشتركة في كونها علما وقدرة لا يوصف بأنه عموم ، فقولنا : الرجل له وجود في الأعيان ، وفي الأذهان ، وفي اللسان ، أما وجوده في اللسان فلفظ الرجل قد وضع للدلالة ، ونسبته في الدلالة إلى زيد ، وعمرو واحدة يسمى عاما باعتبار نسبة الدلالة إلى المدلولات الكثيرة ، وأما ما في الأذهان من معنى الرجل فيسمى كليا من حيث إن العقل يأخذ من مشاهدة زيد حقيقة الإنسان ، وحقيقة الرجل فإذا رأى عمرا لم يأخذ منه صورة أخرى وكان ما أخذه من قبل نسبته إلى عمرو الذي حدث الآن كنسبته إلى زيد الذي عهده أولا ; فهذا معنى كليته ; فإن سمي
[ ص: 225 ] عاما بهذا فلا بأس .
فإن قيل : فهل يجوز أن يقال هذا عام مخصوص ، وهذا عام قد خصص ؟
قلنا : لا لأن المذاهب ثلاثة مذهب أرباب الخصوص ، ومذهب أرباب العموم ، ومذهب
الواقفية . أما أرباب الخصوص فإنهم يقولون : لفظ المشركين مثلا موضوع لأقل الجمع ، وهو للخصوص ، فكيف يقولون إنه عموم قد خصص ؟ وأما أرباب العموم فيقولون : هو للاستغراق فإن أريد به البعض فقد تجوز به عن حقيقته ، ووضعه فلم يتصرف في الوضع ، ولم يغير حتى يقال : إنه خصص العام أو هو عام مخصوص ؟ ، وأما
الواقفية فإنهم يقولون : إن اللفظ مشترك ، وإنما ينزل على خصوص أو عموم بقرينة ، وإرادة معينة ، كلفظ العين فإن أريد به الخصوص فهو موضوع له لا لأنه عام قد خصص ، وإن أريد به العموم فهو موضوع له لا أنه خاص قد عم . فإذا هذا اللفظ مؤول على كل مذهب ، فيكون معناه أنه كان يصلح أن يقصد به العموم فقصد به الخصوص ; هذا على مذهب الوقف ، وعلى مذهب الاستغراق إن وضعه للعموم ، واستعمل في غير وضعه مجازا فهو عام بالوضع خاص بالإرادة ، والتجوز ، وإلا فالعام ، والخاص بالوضع لا ينقلب عن وضعه بإرادة المتكلم .
فإن قيل : فما معنى قولهم : خصص فلان عموم الآية ، والخبر إن كان العام لا يقبل التخصيص ؟
قلنا :
تخصيص العام محال كما سبق ، وتأويل هذا اللفظ أن يعرف أنه أريد باللفظ العام بالوضع أو الصالح لإرادة العموم ، والخصوص ، فيقال على سبيل التوسع لمن عرف ذلك أنه خصص العموم أي : عرف أنه أريد به الخصوص ، ثم من لم يعرف ذلك لكن اعتقده أو ظنه أو أخبر عنه بلسانه أو نصب الدليل عليه يسمى مخصصا ، وإنما هو معرف ، ومخبر عن إرادة المتكلم ، ومستدل عليه بالقرائن لا أنه مخصص بنفسه . " هذه هي المقدمة .