صفحة جزء
مسألة خبر الواحد إذا ورد مخصصا لعموم القرآن

اتفقوا على جواز التعبد به لتقديم أحدهما على الآخر لكن اختلفوا في وقوعه على أربعة مذاهب : فقال بتقديم العموم قوم ، وبتقديم الخبر قوم ، وبتقابلهما ، والتوقف إلى ظهور دليل آخر قوم وقال قوم : إن كان العموم مما دخله التخصيص بدليل قاطع فقد ضعف وصار مجازا فالخبر أولى منه ، وإلا فالعموم أولى ، وإليه ذهب عيسى بن أبان احتج القائلون بترجيح العموم بمسلكين :

الأول : أن عموم الكتاب مقطوع به ، وخبر الواحد مظنون فكيف يقدم عليه ؟ الاعتراض من أوجه :

الأول : أن دخول أصل محل الخصوص في العموم وكونه مرادا به مظنون ظنا ضعيفا يستند إلى صيغة العموم وقد أنكره الواقفية ، وزعموا أنه مجمل فكيف ينفع كون أصل الكتاب مقطوعا به فيما لا يقطع بكونه مرادا بلفظه ؟

الثاني : أنه لو كان مقطوعا به للزم تكذيب الراوي قطعا ، ولا شك في إمكان صدقه .

فإن قيل فلو نقل النسخ فصدقه أيضا ممكن ، ولا يقبل . قلنا : لا جرم لا يعلل رده بكون الآية مقطوعا بها لأن دوام حكمها إنما يقطع به بشرط ألا يرد ناسخ فلا يبقى القطع مع وروده ، لكن الإجماع منع من نسخ القرآن بخبر الواحد ، ولا مانع من التخصيص .

الثالث : أن براءة الذمة قبل ورود السمع مقطوع بها ثم ترفع بخبر الواحد لأنه مقطوع بها بشرط أن لا يرد سمع ، وماء البحر مقطوع بطهارته إذا جعل في كوز لكن بشرط أن لا يرد سمع بأن يخبر عدل بوقوع النجاسة فيه وكذلك العموم ظاهر في الاستغراق بشرط أن لا يرد خاص .

الرابع : أن وجوب العمل بخبر الواحد مقطوع به بالإجماع ، وإنما الاحتمال في صدق الراوي ، ولا تكليف علينا في اعتقاد صدقه ; فإن سفك الدم ، وتحليل البضع واجب بقول عدلين قطعا مع أنا لا نقطع بصدقهما ، فوجوب العمل بالخبر مقطوع به وكون العموم مستغرقا غير مقطوع به .

فإن قيل : إنما يجب العمل بخبر لا يقابل عموم القرآن . قلنا : يقابله أنه إنما يجب العمل بعموم لا يخصصه حديث نص بنقله عدل ، ولا فصل بين الكلامين [ ص: 249 ]

المسلك الثاني : قولهم : إن الحديث إما أن يكون نسخا أو بيانا ، والنسخ لا يثبت بخبر الواحد اتفاقا ، وإن كان بيانا فمحال إذ البيان ما يقترن بالمبين ، وما يعرفه الشارع أهل التواتر حتى تقوم الحجة به .

قلنا : هو بيان ، ولا يجب اقتران البيان بل يجوز تأخيره عندنا ، وما يدريهم أنه وقع متراخيا فلعله كان مقترنا ، والراوي لم يرو اقترانه ؟ كيف ، ويجوز أن يقول بعد ورود آية السرقة لا قطع إلا في ربع دينار من الحرز ؟ وأما قولهم : ينبغي أن يلقيه إلى عدد التواتر ، فتحكم ، بل إذا لم يكلفهم العلم بل العمل جاز تكليفهم بقول عدل واحد ثم ما يدريهم فلعله ألقاه إلى عدد التواتر فماتوا قبل النقل أو نسوا أو هم في الأحياء لكنا ما لقينا منهم إلا واحدا . حجة القائلين بتقديم الخبر أن الصحابة ذهبت إليه إذ روى أبو هريرة أن المرأة لا تنكح على عمتها ، وخالتها ، فخصصوا به قوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } ، وخصصوا عموم آية المواريث برواية أبي هريرة أنه لا يرث القاتل ، والعبد ، ولا أهل ملتين ، ورفعوا عموم آية الوصية بقوله : { لا وصية لوارث } ، ورفعوا عموم قوله تعالى : { حتى تنكح زوجا غيره } برواية من روى : { حتى تذوق عسيلتها } إلى نظائر لذلك كثيرة لا تحصى . الاعتراض أن هذا ليس قاطعا بأنهم رفعوا العموم بمجرد قول الراوي ، بل ربما قامت الحجة عندهم على صحة قوله بأمور وقرائن ، وأدلة سوى مجرد قوله ، كما نقل أن أهل قباء تحولوا عن القبلة بخبر واحد ، وهو نسخ لكنهم لعلهم عرفوا صدقه برفع صوته في جوار النبي ، وأصحابه ، وأن ذلك لا يمكن الكذب فيه .

حجة القائلين بالتوقف ، وهو اختيار القاضي أن العموم وحده دليل مقطوع الأصل مظنون الشمول ، والخبر وحده مظنون الأصل مقطوع به في اللفظ ، والمعنى ، وهما متقابلان ، ولا دليل على الترجيح فيتعارضان ، والرجوع إلى دليل آخر ، والمختار أن خبر العدل أولى لأن سكون النفس إلى عدل واحد في الرواية لما هو نص كسكونها إلى عدلين في الشهادة ، أما اقتضاء آية المواريث الحكم في حق القاتل ، والكافر ضعيف وكلام من يدعي إجمال العموم قوي واقع وكلام من ينكر خبر الواحد ، ولا يجعله حجة في غاية الضعف ; ولذلك ترك توريث فاطمة بقول أبي بكر { نحن معاشر الأنبياء لا نورث } الحديث ، فنحن نعلم أن تقدير كذب أبي بكر وكذب كل عدل أبعد في النفس من تقدير كون آية المواريث مسوقة لتقدير المواريث لا للقصد إلى بيان حكم النبي عليه السلام ، والقاتل ، والعبد ، والكافر ، وهذه النوادر .

التالي السابق


الخدمات العلمية