صفحة جزء
مقدمة أخرى : في حصر مجاري الاجتهاد في العلل . اعلم أنا نعني : بالعلة في الشرعيات مناط الحكم ، أي : ما أضاف الشرع الحكم إليه ، وناطه به ، ونصبه علامة عليه . ، والاجتهاد في العلة إما أن يكون في تحقيق مناط الحكم ، أو في تنقيح مناط الحكم ، أو في تخريج مناط الحكم ، واستنباطه .

أما الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم فلا نعرف خلافا بين الأمة في جوازه ، مثاله الاجتهاد في تعيين الإمام بالاجتهاد مع قدرة الشارع في الإمام الأول على النص ، وكذا تعيين الولاة ، والقضاة ، وكذلك في تقدير المقدرات ، وتقدير الكفايات في نفقة القرابات ، وإيجاب المثل في قيم المتلفات ، وأروش الجنايات ، وطلب المثل في جزاء الصيد ، فإن مناط الحكم في نفقة القريب الكفاية ، وذلك معلوم بالنص ، أما أن الرطل كفاية لهذا الشخص أم لا ; فيدرك بالاجتهاد ، والتخمين ، وينتظم هذا الاجتهاد بأصلين : أحدهما : أنه لا بد من الكفاية ، والثاني : أن الرطل قدر الكفاية ، فيلزم منه أنه الواجب على القريب .

أما الأصل الأول فمعلوم بالنص ، والإجماع ، وأما الثاني فمعلوم بالظن ، وكذلك نقول : يجب في حمار الوحش بقرة لقوله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } فنقول : المثل واجب ، والبقرة مثل فإذا هي الواجب ، والأول معلوم بالنص ، وهي المثلية التي هي مناط الحكم ، أما تحقق المثلية في البقرة فمعلوم بنوع من المقايسة ، والاجتهاد .

، وكذلك من أتلف فرسا فعليه ضمانه ، والضمان هو المثل في القيمة ، أما كون مائة درهم مثلا في القيمة فإنما يعرف بالاجتهاد ، ومن هذا القبيل الاجتهاد في القبلة ، وليس ذلك من القياس في شيء ، بل الواجب استقبال جهة القبلة ، وهو معلوم بالنص ، أما أن هذه جهة القبلة فإنه يعلم بالاجتهاد ، والأمارات الموجبة للظن عند تعذر اليقين ، وكذلك حكم القاضي بقول الشهود ظني ، لكن الحكم بالصدق واجب ، وهو معلوم بالنص ، وقول العدل صدق معلوم بالظن ، وأمارات العدالة ، والعدالة لا تعلم إلا بالظن ، فلنعبر عن هذا الجنس بتحقيق مناط الحكم ; لأن المناط معلوم بنص أو إجماع لا حاجة إلى استنباطه ، لكن تعذرت معرفته باليقين فاستدل عليه بأمارات ظنية .

وهذا لا خلاف فيه بين الأمة ، وهو نوع اجتهاد ، والقياس مختلف فيه ، فكيف يكون هذا قياسا ، وكيف يكون مختلفا فيه ، وهو ضرورة كل شريعة ; لأن التنصيص على عدالة الأشخاص ، وقدر كفاية كل شخص محال ، فمن ينكر القياس ينكره حيث يمكن التعريف [ ص: 282 ] للحكم بالنص المحيط بمجاري الحكم .

الاجتهاد الثاني في تنقيح مناط الحكم : وهذا أيضا يقر به أكثر منكري القياس ، مثاله : أن يضيف الشارع الحكم إلى سبب ، وينوطه به ، وتقترن به أوصاف لا مدخل لها في الإضافة ، فيجب حذفها عن درجة الاعتبار حتى يتسع الحكم ، مثاله : إيجاب العتق على الأعرابي حيث أفطر في رمضان بالوقاع مع أهله ، فإنا نلحق به أعرابيا آخر بقوله عليه السلام : { حكمي على الواحد حكمي على الجماعة } أو بالإجماع على أن التكليف يعم الأشخاص ، ولكنا نلحق التركي ، والعجمي به ; لأنا نعلم أن مناط الحكم وقاع مكلف لا وقاع أعرابي ، ونلحق به من أفطر في رمضان آخر ; ; لأنا نعلم أن المناط هتك حرمة رمضان لا حرمة ذلك الرمضان ، بل نلحق به يوما آخر من ذلك الرمضان .

ولو وطئ أمته أوجبنا عليه الكفارة ; لأنا نعلم أن كون الموطوءة منكوحة لا مدخل له في هذا الحكم بل يلحق به الزنا ; لأنه أشد في هتك الحرمة ، إلا أن هذه الحالات معلومة تنبئ على تنقيح مناط الحكم بحذف ما علم بعادة الشرع في موارده ، ومصادره ، وفي أحكامه أنه لا مدخل له في التأثير .

وقد يكون حذف بعض الأوصاف مظنونا ، فينقدح الخلاف فيه ، كإيجاب الكفارة بالأكل ، والشرب ; إذ يمكن أن يقال : مناط الكفارة كونه مفسدا للصوم المحترم ، والجماع آلة الإفساد ، كما أن مناط القصاص في القتل بالسيف كونه مزهقا روحا محترمة ، والسيف آلة ، فيلحق به السكين ، والرمح ، والمثقل ، فكذلك الطعام ، والشراب آلة ، ويمكن أن يقال : الجماع مما لا تنزجر النفس عنه عند هيجان شهوته لمجرد وازع الدين ، فيحتاج فيه إلى كفارة وازعة بخلاف الأكل .

وهذا محتمل ، والمقصود أن هذا تنقيح المناط بعد أن عرف المناط بالنص لا بالاستنباط ولذلك أقر به أكثر منكري القياس ، بل قال أبو حنيفة رحمه الله : لا قياس في الكفارات ، وأثبت هذا النمط من التصرف ، وسماه استدلالا ، فمن جحد هذا الجنس من منكري القياس ، وأصحاب الظاهر لم يخف فساد كلامه .

الاجتهاد الثالث في تخريج مناط الحكم ، واستنباطه : مثاله أن يحكم بتحريم في محل ، ولا يذكر إلا الحكم ، والمحل ، ولا يتعرض لمناط الحكم ، وعلته ، كتحريم شرب الخمر ، والربا في البر ، فنحن نستنبط المناط بالرأي ، والنظر ، فنقول : حرمه لكونه مسكرا ، وهو العلة ، ونقيس عليه النبيذ ، وحرم الربا في البر لكونه مطعوما ، ونقيس عليه الأرز ، والزبيب ، ويوجب العشر في البر ، فنقول : أوجبه لكونه قوتا ، فنلحق به الأقوات ، ولكونه نبات الأرض ، وفائدتها ، فنلحق به الخضراوات ، وأنواع النبات .

فهذا هو الاجتهاد القياسي الذي عظم الخلاف فيه ، أنكره أهل الظاهر وطائفة من معتزلة بغداد ، وجميع الشيعة ، والعلة المستنبطة أيضا عندنا لا يجوز التحكم بها ، بل قد تعلم بالإيماء ، وإشارة النص ، فتلحق بالمنصوص ، وقد تعلم بالسبر حيث يقوم دليل على وجوب التعليل ، وتنحصر الأقسام في ثلاثة مثلا ، ويبطل قسمان ، فيتعين الثالث ، فتكون العلة ثابتة بنوع من الاستدلال فلا تفارق تحقيق المناط ، وتنقيح المناط ، وقد يقوم الدليل على كون الوصف المستنبط مؤثرا بالإجماع ، فيلحق به ما لا يفارقه إلا فيما لا مدخل له في التأثير ، كقولنا : الصغير يولى عليه في ماله لصغره ، فيلحق بالمال البضع إذ ثبت بالإجماع تأثير الصغر في جلب الحكم ، ولا يفارق البضع المال في معنى مؤثر في الحكم .

فكل ذلك استدلال قريب من القسمين الأولين [ ص: 283 ] والقسم الأول متفق عليه ، والثاني مسلم من الأكثرين . هذا شرح المقدمتين ، ولنشرع الآن في الأبواب

التالي السابق


الخدمات العلمية