الباب الثاني : في طريق إثبات علة الأصل وكيفية إقامة الدلالة على صحة آحاد الأقيسة
وننبه في صدر الكتاب على مثارات الاحتمال في كل قياس ، إذ لا حاجة إلى الدليل إلا في محل الاحتمال ، ثم على انحصار الدليل في الأدلة السمعية ، ثم على انقسام الأدلة السمعية إلى ظنية وقطعية . فهذه ثلاث مقدمات .
المقدمة الأولى : في
مواضع الاحتمال من كل قياس ، وهي ستة :
الأول : يجوز أن لا يكون الأصل معلولا عند الله تعالى فيكون القائس قد علل ما ليس بمعلل .
الثاني : أنه إن كان معللا فلعله لم يصب ما هو العلة عند الله تعالى بل علله بعلة أخرى .
الثالث : أنه إن أصاب في أصل التعليل ، وفي عين العلة فلعله قصر على وصفين أو ثلاثة ، وهو معلل به مع قرينة أخرى زائدة على ما قصر اعتباره عليه .
الرابع : أن يكون قد جمع إلى العلة وصفا ليس مناطا للحكم فزاد على الواحد .
الخامس : أن يصيب في أصل العلة وتعيينها وضبطها لكن يخطئ في وجودها في الفرع فيظنها موجودة بجميع قيودها وقرائنها ولا تكون كذلك .
السادس : أن يكون قد استدل على تصحيح العلة بما ليس بدليل ، وعند ذلك لا يحل له القياس ، وإن أصاب العلة ، كما لو أصاب بمجرد الوهم والحدس من غير دليل ، وكما لو ظن القبلة في جهة من غير اجتهاد فصلى ، فإنه لا تصح الصلاة . وزاد آخرون احتمالا سابعا ، وهو الخطأ في القياس ، إذ يحتمل أن يكون أصل القياس في الشرع باطلا . وهذا خطأ لأن صحة القياس ليس مظنونا بل هو مقطوع به ، ولو تطرق إليه احتمال لتطرق إلى جميع القطعيات من التوحيد والنبوة وغيرهما . والمثارات الستة لاحتمال الخطأ إنما تستقيم على مذهب من يقول : المصيب واحد وفي موضع يقدر نصب الله تعالى أدلة قاطعة يتصور أن يحيط بها الناظر ، أما من قال كل مجتهد مصيب فليس في الأصل وصف معين هو العلة عند الله تعالى حتى يخطئ أصلها أو وصفها ، بل العلة عند الله تعالى في حق كل مجتهد ما ظنه علة فلا يتصور الخطأ ، ولكنه على الجملة يحتاج إلى إقامة الدليل في هذه وإن كانت أدلة ظنية .
المقدمة الثانية : أن هذه
الأدلة لا تكون إلا سمعية ، بل لا مجال للنظر العقلي في هذه المثارات إلا في تحقيق وجود علة الأصل في الفرع ، فإن العلة إذا كانت محسوسة كالسكر والطعم والطوف في السؤر فوجود ذلك في النبيذ والأرز والفأرة قد يعلم بالحس وبالأدلة
[ ص: 305 ] العقلية أما أصل تعليل الحكم وإثبات عين العلة ووصفها فلا يمكن إلا بالأدلة السمعية ; لأن العلة الشرعية علامة وأمارة لا توجب الحكم بذاتها ، إنما معنى كونها علة نصب الشرع إياها علامة ، وذلك وضع من الشارع ، ولا فرق بين وضع الحكم وبين وضع العلامة ونصبها أمارة على الحكم ، فالشدة التي جعلت أمارة التحريم يجوز أن يجعلها الشرع أمارة الحل فليس إيجابها لذاتها ، ولا فرق بين قول الشارع {
ارجموا ماعزا } وبين قوله {
جعلت الزنا علامة إيجاب الرجم } فإن قيل : فالحكم لا يثبت إلا توقيفا ونصا فلتكن العلة كذلك . قلنا : لا يثبت الحكم إلا توقيفا ، لكن ليس طريق معرفة التوقيف في الأحكام مجرد النص بل النص ، والعموم والفحوى ومفهوم القول وقرائن الأحوال وشواهد الأصول وأنواع الأدلة ، فكذلك إثبات العلة تتسع طرقه ولا يقتصر فيه على النص .