صفحة جزء
الحكم الثاني في الاجتهاد والتصويب والتخطئة : وقد اختلف الناس فيها واختلفت الرواية عن الشافعي وأبي حنيفة وعلى الجملة قد ذهب قوم إلى أن كل مجتهد في الظنيات مصيب وقال قوم :

المصيب واحد واختلف الفريقان جميعا في أنه هل في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين لله تعالى هو مطلوب المجتهد ؟ فالذي ذهب إليه محققو المصوبة أنه ليس في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين يطلب بالظن بل الحكم يتبع الظن وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما غلب على ظنه ، وهو المختار وإليه ذهب القاضي . وذهب قوم من المصوبة إلى أن فيه حكما معينا يتوجه إليه الطلب ، إذ لا بد للطلب من مطلوب لكن لم يكلف المجتهد إصابته فلذلك كان مصيبا وإن أخطأ ذلك الحكم المعين الذي لم يؤمر بإصابته ، بمعنى أنه أدى ما كلف فأصاب ما عليه .

وأما القائلون بأن المصيب واحد فقد اتفقوا على أن فيه حكما معينا لله تعالى ، لكن اختلفوا في أنه هل عليه دليل أم لا ؟ فقال قوم : لا دليل عليه وإنما هو مثل دفين يعثر الطالب عليه بالاتفاق فلمن عثر عليه أجران ولمن حاد عنه أجر واحد لأجل سعيه وطلبه . والذين ذهبوا إلى أن عليه دليلا اختلفوا في أن عليه دليلا قاطعا أو ظنيا ؟ فقال قوم : هو قاطع ولكن الإثم محطوط عن المخطئ لغموض الدليل وخفائه .

ومن هذا تمادى بشر المريسي في إتمام هذا القياس فقال : إذا كان الدليل قطعيا أثم المخطئ كما في سائر القطعيات . وهو تمام الوفاء بقياس مذهب من قال : المصيب واحد . ثم الذين ذهبوا إلى أن عليه دليلا ظنيا اختلفوا في أن المجتهد هل أمر قطعيا بإصابة ذلك الدليل ؟ فقال قوم : لم يكلف المجتهد إصابته لخفائه وغموضه فلذلك كان معذورا ومأجورا . وقال قوم : أمر بطلبه وإذا أخطأ لم يكن مأجورا لكن حط الإثم عنه تخفيفا .

هذا تفصيل المذاهب والمختار عندنا وهو الذي نقطع به ونخطئ المخالف فيه أن كل مجتهد في الظنيات مصيب وأنها ليس فيها حكم معين لله تعالى ، وسنكشف الغطاء عن ذلك بفرض الكلام في طرفين .

الطرف الأول : مسألة فيها نص للشارع وقد أخطأ مجتهد النص . فنقول : ينظر ، فإن كان النص مما هو مقدور على بلوغه لو طلبه المجتهد بطريقه فقصر ولم يطلب فهو مخطئ [ ص: 353 ] وآثم بسبب تقصيره ; لأنه كلف الطلب المقدور عليه فتركه فعصى وأثم وأخطأ حكم الله تعالى عليه

أما إذا لم يبلغه النص لا لتقصير من جهته لكن لعائق من جهة بعد المسافة وتأخير المبلغ والنص قبل أن يبلغه ليس حكما في حقه فقد يسمى مخطئا مجازا على معنى أنه أخطأ بلوغ ما لو بلغه لصار حكما في حقه ، ولكنه قبل البلوغ ليس حكما في حقه فليس مخطئا حقيقة ; وذلك أنه لو صلى النبي عليه السلام إلى بيت المقدس بعد أن أمر الله تعالى جبريل أن ينزل على محمد عليه السلام ويخبره بتحويل القبلة فلا يكون النبي مخطئا ; لأن خطاب استقبال الكعبة بعد لم يبلغه فلا يكون مخطئا في صلاته ، فلو نزل فأخبره وأهل مسجد قباء يصلون إلى بيت المقدس ولم يخرج بعد إليهم النبي عليه السلام ولا مناد من جهته فليسوا مخطئين ، إذ ذلك ليس حكما في حقهم قبل بلوغه ; فلو بلغ ذلك أبا بكر وعمر واستمر سكان مكة على استقبال بيت المقدس قبل بلوغ الخبر إليهم فليسوا مخطئين ; لأنهم ليسوا مقصرين .

وكذلك نقل عن { ابن عمر : إنا كنا نخابر أربعين سنة حتى روى لنا رافع بن خديج النهي عن المخابرة } فليس ذلك خطأ منهم قبل بلوغ لأن الراوي غاب عنهم أو قصر في الرواية . فإذا ثبت هذا في مسألة فيها نص فالمسألة التي لا نص فيها كيف يتصور الخطأ فيها ؟ فإن قيل : فرضتم المسألة حيث لا دليل على الحكم المنصوص ونحن نخطئه إذا كان عليه دليل ووجب عليه طلبه فلم يعثر عليه .

قلنا : عليه دليل قاطع أو دليل ظني ؟ فإن كان عليه دليل قاطع فلم يعثر عليه وهو قادر عليه فهو آثم عاص ويجب تأثيمه وحيث وجب تأثيمه وجبت تخطئته كانت المسألة فقهية أو أصولية أو كلامية ، وإنما كلامنا في مسائل ليس عليها دليل قاطع ، ولو كان لنبه عليه من عثر عليه من الصحابة غيره ولشدد الإنكار عليهم ، فإن الدليل القاطع في مثل هذه المسألة نص صريح أو في معنى المنصوص على وجه يقطع به ولا يتطرق الشك إليه والتنبيه على ذلك سهل ، أفيقولون :

لم يعثر عليه جميع الصحابة رضي الله عنهم فأخطأ أهل الإجماع الحق أو عرفه بعضهم وكتمه أو أظهره فلم يفهمه الآخرون أو فهموه فعاندوا الحق وخالفوا النص الصريح وما يجري مجراه ؟ وجميع هذه الاحتمالات مقطوع ببطلانها . ومن نظر في المسائل الفقهية التي لا نص فيها علم ضرورة انتفاء دليل قاطع فيها ، وإذا انتفى الدليل فتكليف الإصابة من غير دليل قاطع تكليف محال ، فإذا انتفى التكليف انتفى الخطأ .

فإن قيل : عليه دليل ظني بالاتفاق . فمن أخطأ الدليل الظني فقد أخطأ . قلنا : الأمارات الظنية ليست أدلة بأعيانها بل يختلف ذلك بالإضافات ، فرب دليل يفيد الظن لزيد وهو بعينه لا يفيد الظن لعمرو مع إحاطته به ، وربما يفيد الظن لشخص واحد في حال دون حال ، بل قد يقوم في حق شخص واحد في حال واحدة في مسألة واحدة دليلان متعارضان كان كل واحد لو انفرد لأفاد الظن ولا يتصور في الأدلة القطعية تعارض .

وبيانه أن أبا بكر رأى التسوية في العطاء ، إذ قال : الدنيا بلاغ ، كيف وإنما عملوا لله عز وجل وأجورهم على الله حيث قال عمر كيف تساوي بين الفاضل والمفضول ؟ ورأى عمر التفاوت لكون ذلك ترغيبا في طلب الفضائل ولأن أصل الإسلام وإن كان لله فيوجب الاستحقاق .

والمعنى الذي ذكره أبو بكر فهمه عمر رضي الله عنهما ولم يفده غلبة الظن وما رآه عمر فهمه أبو بكر ولم يفده غلبة الظن [ ص: 354 ] ولا مال قلبه إليه وذلك لاختلاف أحوالهما ، فمن خلق خلقة أبي بكر في غلبة التأله وتجريد النظر في الآخرة غلب على ظنه لا محالة ما ظنه أبو بكر ولم ينقدح في نفسه إلا ذلك ، ومن خلقه الله خلقة عمر وعلى حالته وسجيته في الالتفات إلى السياسة ورعاية مصالح الخلق وضبطهم وتحريك دواعيهم للخير فلا بد أن تميل نفسه إلى ما مال إليه عمر مع إحاطة كل واحد منهما بدليل صاحبه ، ولكن اختلاف الأخلاق والأحوال والممارسات يوجب اختلاف الظنون ، فمن مارس علم الكلام ناسب طبعه أنواع من الأدلة يتحرك بها ظنه لا يناسب ذلك طبع من مارس الفقه .

ولذلك من مارس الوعظ صار مائلا إلى جنس ذلك الكلام بل يختلف باختلاف الأخلاق ، فمن غلب عليه الغضب مالت نفسه إلى كل ما فيه شهامة وانتقام ، ومن لان طبعه ورق قلبه نفر عن ذلك ومال إلى ما فيه الرفق والمساهلة .

فالأمارات كحجر المغناطيس تحرك طبعا يناسبها كما يحرك المغناطيس الحديد دون النحاس بخلاف دليل العقل فإنه موجب لذاته ، فإن تسليم المقدمتين على الشكل الذي ذكرناه في مدارك العقول يوجب التصديق ضرورة بالنتيجة فإذا لا دليل في الظنيات على التحقيق وما يسمى دليلا فهو على سبيل التجوز وبالإضافة إلى ما مالت نفسه إليه فإذا أصل الخطأ في هذه المسألة إقامة الفقهاء للأدلة الظنية وزنا حتى ظنوا أنها أدلة في أنفسها لا بالإضافة ، وهو خطأ محض يدل على بطلانه البراهين القاطعة .

فإن قيل : لم تنكرون على من يقول فيه أدلة قطعية ، وإنما لم يؤثم المخطئ لغموض الدليل ؟ قلنا : الشيء ينقسم إلى معجوز عنه ممتنع وإلى مقدور عليه على يسر وإلى مقدور عليه على عسر ; فإن كان درك الحق المعين معجوزا عنه ممتنعا فالتكليف به محال ، وإن كان مقدورا على يسر فالتارك له ينبغي أن يأثم قطعا لأنه ترك ما قدر عليه وقد أمر به ، وإن كان مقدورا على عسر فلا يخلو إما أن يكون العسر صار سببا للرخصة وحط التكليف كإتمام الصلاة في السفر أو بقي التكليف مع العسر ، فإن بقي التكليف مع العسر فتركه مع القدرة إثم كالصبر على قتال الكفار مع تضاعف عددهم فإنه شديد جدا وعسير ولكن يعصي إذا تركه ; لأن التكليف لم يزل بهذا العسر

وكذلك صبر المرأة على الضرات وحسن التبعل مع أن ذلك جهاد شديد على النفس ولكنها تأثم بتركه مع ضعفها وعجزها ، وكذلك التمييز بين الدليل والشبهة في مسألة حدوث العالم ودلالة المعجزة وتمييزها عن السحر في غاية الغموض ومن أخطأ فيه أثم بل كفر واستحق التخليد في النار ، وكذلك الحق في المسائل الفقهية مع العسر إن أمر به فالمخطئ آثم فيه وإن لم يؤمر بإصابة الحق بل بحسب غلبة الظن فقد أدى ما كلف وأصاب ما هو حكم في حقه وأخطأ ما ليس حكما في حقه ، بل هو بصدد أن يكون حكما في حقه لو خوطب به أو نصب على معرفته دليل قاطع .

فإذا الحاصل أن الإصابة محال أو ممكن ولا تكليف بالمحال ، ومن أمر بممكن فتركه عصى وأثم ، ومحال أن يقال : هو مأمور به ، لكن إن خالف لم يعص ولم يأثم وكان معذورا ; لأن هذا يناقض حد الأمر والإيجاب إذ حد الإيجاب ما يتعرض تاركه للعقاب والذم . وهذا تقسيم قاطع يرفع الخلاف مع كل منصف ويرد النزاع إلى عبارة ، وهو أن ما ليس حكما في حقه قد أخطأه ، وذلك مسلم ولكنه نوع مجاز كتخطئة المصلي إلى بيت المقدس قبل بلوغ الخبر [ ص: 355 ]

ثم هذا المجاز أيضا إنما ينقدح في حكم نزل من السماء ونطق به الرسول كما في تحويل القبلة ومسألة المخابرة ، أما سائر المجتهدات التي يلحق فيه المسكوت بالمنطوق قياسا واجتهادا فليس فيها حكم معين أصلا ، إذ الحكم خطاب مسموع أو مدلول عليه بدليل قاطع وليس فيها خطاب ونطق فلا حكم فيها أصلا إلا ما غلب على ظن المجتهد .

وسنفرد لهذا مسألة ونبين أنه ليس في المسألة أشبه عند الله عز وجل

التالي السابق


الخدمات العلمية