ونذكر الآن
شبه المخالفين وهي أربع .
الشبهة الأولى : قولهم : هذا المذهب في نفسه محال لأنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين ، وهو أن يكون قليل النبيذ مثلا حلالا حراما والنكاح بلا ولي صحيحا باطلا والمسلم إذا قتل كافرا مهدرا ومقادا إذ ليس في المسألة حكم معين وكل واحد من المجتهدين مصيب ، فإذا الشيء ونقيضه حق وصواب .
وتبجح بعضهم بهذا الدليل حتى قال : هذا مذهب أوله سفسطة وآخره زندقة ; لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقا وبالآخر يرفع الحجر ويخير بين الشيء ونقيضه عند تعارض الدليلين ويخير المستفتي لتقليد من شاء وينتقي من المذاهب أطيبها عنده .
والجواب : أن هذا كلام فقيه سليم القلب جاهل بالأصول وبحد النقيضين وبحقيقة الحكم ، ظان أن الحل والحرمة وصف للأعيان ، فيقول : يستحيل أن يكون النبيذ حلالا حراما كما يستحيل أن يكون الشيء قديما حادثا ، وليس يدري أن الحكم خطاب لا يتعلق بالأعيان بل بأفعال المكلفين
ولا يتناقض أن يحل لزيد ما يحرم على عمرو كالمنكوحة تحل للزوج وتحرم على الأجنبي وكالميتة تحل للمضطر دون المختار وكالصلاة تجب على الطاهر وتحرم على الحائض ، وإنما المتناقض أن يجتمع التحليل والتحريم في حالة واحدة لشخص واحد في فعل واحد من وجه واحد ، فإذا تطرق التعدد والانفصال إلى شيء من هذه الجملة انتفى التناقض حتى نقول : الصلاة في الدار المغصوبة حرام قربة في حالة واحدة لشخص واحد لكن من وجه دون وجه ، فإذا اختلاف الأحوال ينفي التناقض ، ولا فرق بين أن يكون اختلاف الأحوال بالحيض والطهر والسفر والحضر أو بالعلم والجهل أو غلبة الظن ، فالصلاة حرام على المحدث إذا علم أنه محدث واجبة عليه إذا جهل كونه محدثا ; ولو قال الشارع : يحل ركوب البحر لمن ، غلب على ظنه السلامة ويحرم على من غلب على ظنه الهلاك فغلب على ظن الجبان الهلاك وعلى ظن الجسور السلامة حرم على الجبان وحل للجسور لاختلاف حالهما
وكذلك لو صرح الشارع وقال : من غلب على ظنه أن النبيذ بالخمر أشبه فقد حرمته عليه ومن غلب على ظنه أنه بالمباحات أشبه فقد حللته له لم يتناقض ، فصريح مذهبنا أن لو نطق به الشرع لم يكن متناقضا ولا محالا ومذهب الخصم لو صرح به الشرع كان محالا وهو أن يقول :
كلفتك العثور على ما لا دليل عليه ، أو يقول : كلفتك العثور على ما عليه دليل لكن لو تركته مع القدرة لم تأثم فيكون الأول محالا من جهة تكليف ما لا يطاق ، ويكون الثاني محالا من جهة تناقض حد الأمر إذ حد الأمر ما يعصي تاركه .
الجواب الثاني : أن نقول لو سلمنا أن الحل والحرمة وصف للأعيان أيضا لم يتناقض ، إذ يكون من الأوصاف الإضافية ، ولا
[ ص: 356 ] يتناقض أن يكون الشخص الواحد أبا ابنا لكن لشخصين وأن يكون الشيء مجهولا ومعلوما لكن لاثنين وتكون المرأة حلالا حراما لرجلين كالمنكوحة حرام للأجنبي حلال للزوج والميتة حرام للمختار حلال للمضطر .
الجواب الثالث : هو أن التناقض ما ركبه الخصم ، فإنه اتفق كل محصل لم يهذ هذيان
المريسي أن كل مجتهد يجب عليه أن يعمل بما أدى إليه اجتهاده ويعصي بتركه ، فالمجتهدان في القبلة يجب على أحدهما استقبال جهة يحرم على الآخر استقبالها ، فإن المصيب لا يتميز عن المخطئ فيجب على كل واحد منهما العمل بنقيض ما يعمل به الآخر .
الشبهة الثانية : قولهم : إن سلمنا لكم أن هذا المذهب ليس بمحال في نفسه ولو صرح الشرع به فهو مؤد إلى المحال في بعض الصور وما يؤدي إلى المحال فهو محال ، فأداؤه إلى المحال فهو في حق المجتهد بأن يتقاوم عنده دليلان فيتحير عندكم بين الشيء ونقيضه في حالة واحدة ، وأما في حق صاحب الواقعة فإذا نكح مجتهد مجتهدة ثم قال لها : أنت بائن ، وراجعها والزوج شفعوي يرى الرجعة والزوجة حنفية ترى الكنايات قاطعة للعصمة والرجعة فيسلط الزوج على مطالبتها بالوطء
ويجب عليها مع تسلط الزوج عليها منعه ; وكذلك إذا نكح بغير ولي أولا ثم نكح آخر بولي فإن كان كل واحد من المذهبين حقا فالمرأة حلال للزوجين ، وهذا محال ويمكن أن يستعمل هذا في نصرة الشبهة الأولى ، والاعتراض على ما ذكرنا من دفع التناقض ورده إلى شخصين فقد تكلفوا تقريره في حق شخص واحد .
والجواب من أوجه ، وحاصله أنه لا إشكال في هذه المسائل ولا استحالة ، وما فيه من الإشكال فينقلب عليهم ولا يختص إشكاله بهذا المذهب ، أما المجتهد إذا تعارض عنده دليلان فلنا فيه رأيان :
أحدهما : وهو الذي ننصره في هذه المسألة أنه يتوقف ويطلب الدليل من موضع آخر ; لأنه مأمور باتباع غالب الظن ولم يغلب على ظنه شيء ، فقولنا فيه قولكم ، فإنه وإن كان أحدهما حقا عندكم فقد تعذر عليه الوصول إليه ، وهذا يقطع مادة الإشكال وعلى رأيي نقول : يتخير بأي دليل شاء ، وسنفرد هذه المسألة بالذكر وننبه على غورها .
أما الثانية : فقولنا فيها أيضا قولكم ، فإن المصيب وإن كان واحدا عندهم فلا يتميز عن المخطئ ، ويجب على المخطئ في الحال العمل بموجب اجتهاده لجهله بكونه مخطئا إذ لا يتميز عن صاحبه فقد أوجبوا عليها المنع وأباحوا للزوج الطلب فقد ركبوا المحال إن كان هذا محالا ، فسيقولون : إنه ليس بمحال ; وهو جوابنا الثاني ، ووجهه أن إيجاب المنع عليها لا يناقض إباحة الطلب للزوج ولا إيجابه ، بل للسيد أن يقول لأحد عبديه : أوجبت عليك سلب فرس الآخر ، ويقول للآخر : أوجبت عليك منعه ودفعه ، ويقول لهذا : إن لم تسلب عاقبتك ، ويقول للآخر : إن لم تحفظ عاقبتك
وكذلك يجب على ولي الطفل أن يطلب غرامة مال الطفل إذا أخبره عدلان بأنه أتلفه طفل آخر ، ويجب على ولي الطفل المنسوب إلى الإتلاف إذا عاين صدور الإتلاف من غير الطفل أو علم كذب الشاهدين أن يمنع ويدفع ، فيجب الطلب على أحدهما والدفع على الآخر مؤاخذة لكل واحد بموجب اعتقاده . نعم السؤال يحسن من منكري الاجتهاد من التعليمية وغيرهم إذ يقولون : أصل
[ ص: 357 ] الاجتهاد باطل لأدائه إلى هذا النوع من التناقض .
وجوابه ما ذكرناه ، ونقابله على مذهبه أيضا بما لا يجد عنه محيصا فنقول : إن أنكرت الظنون لم تنكر القواطع ، وسعي الإنسان في هلاك نفسه أو إهلاك غيره حرام بالقواطع ، فلو اضطر شخصان إلى قدر من الميتة لا يفي إلا بسد رمق أحدهما ولو قسماه أو تركاه ماتا ولو أخذه أحدهما هلك الآخر ولو وكله إليه أهلك نفسه ، فماذا يجب عليه ؟ وكيفما قال فهو مناقض ولا مخلص ، فإن أوجب على كل واحد أن يأخذ فقد أوجب الأخذ على هذا وأوجب الدفع عن ذاك
فإن أوجب عليهما الترك فقد أوجب إهلاكهما جميعا ، وإن خص أحدهما بالأخذ فهو تحكم ، وإن قال : يتخير كل واحد منهما بين الأخذ والترك فقد سلط هذا على الأخذ وذاك على الدفع ، فإن أحدهما لو اختار الأخذ واختار الآخر الدفع جاز ، وهو أيضا متناقض بزعمهم ، فماذا يقولون ؟ والمختار عندنا في هذه الصورة التخيير لكل واحد ، فإنه إنما يجب الأخذ إذا لم يهلك غيره ، وإنما يجب الترك والإيثار إذا لم يهلك نفسه ، فإذا تعارضا تخيرا ، ويحتمل أن يقرع بينهما كبينتين متعارضتين .
وأما المسألة الثانية إذا نشب الخصام بين الزوج وزوجته احتمل وجهين ، أحدهما : أن يقول : يلزمهما الرفع إلى حاكم البلد فإن قضى بثبوت الرجعة لزم تقديم اجتهاد الحاكم على اجتهادهما أنفسهما وحل لهما مخالفة اجتهاد أنفسهما ، إذ اجتهاد الحاكم أولى من اجتهادهما لضرورة رفع الخصومات ، فإن عجزا عن حاكم فعليهما تحكيم عالم فيقضي بينهما ، فإن لم يفعلا أثما وعصيا وكل ذلك احتمالات فقهية .
ويحتمل أن يتركا متنازعين ولا يبالي بتمانعهما ، فإنه تكليف بنقيضين في حق شخصين فلا يتناقض . وأما المسألة الثالثة وهي أن تنكح بولي من نكحت بغير ولي ، فنقول : إن النكاح بلا ولي صدر من حنفي يعتقد ذلك فقد صح النكاح في حقه ، والنكاح الثاني بعده باطل قطعيا لأنها صارت زوجة للأول .
وإن كان الحنفي عقده باجتهاد نفسه واتصل به قضاء حنفي فذلك أوكد ، فإن كان مقلدا فقد صح أيضا في حقه ، وإن صدر العقد من شفعوي على خلاف معتقده احتمل أمرين أحدهما : أن نقطع ببطلانه فإنا إنما نجعله حقا إذ صدر من معتقده عن تقليد أو اجتهاد حيث لا يأثم ولا يعصي وهذا قد عصى فهو مخطئ ، ويتحمل أن يقال : ما لم يطلق أولم يقض حاكم ببطلانه فلا تحل لغيره ; لأنه نكاح بصدد أن يقضي به حنفي فينحسم سبيل نقضه فلا يعقد نكاح آخر قبل نقضه .
وقد اختلفوا في أن الحنفي لو قضى لشفعوي بشفعة الجار أو بصحة النكاح بلا ولي فهل يؤثر قضاؤه في الإحلال باطنا ؟ فغلا
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة ، وجعل القضاء بشهادة الزور يغير الحكم باطنا فيما للقاضي فيه ولاية الفسخ والعقد ، وغلا قوم فقالوا : لا يحل القضاء شيئا بل يبقى على ما كان عليه ، وإن كان قضاؤه في محل الاجتهاد ، وقال قوم يؤثر في محل الاجتهاد ويغير الحكم باطنا ، ولا يؤثر حيث قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة .
وهذه احتمالات فقهية لا يستحيل شيء منها ، فنختار منها ما يشاء فلا يتناقض ، ولا يلزمنا في الأصول تصحيح واحد من هذه الاختيارات الفقهية ; فإنها ظنيات محتملة كل مجتهد أيضا فيها مصيب .
الشبهة الثالثة : تمسكهم بطريق الدلالة بقولهم : لو صح ما ذكرتموه لجاز لكل واحد
[ ص: 358 ] من المجتهدين في القبلة والإناءين إذا اختلف اجتهادهما أن يقتدي بالآخر ; لأن صلاة كل واحد صحيحة ، فلم لا يقتدي بمن صحت صلاته ؟ وكذلك ينبغي أن يصح اقتداء الشافعي بحنفي إذا ترك الفاتحة ، وصلاة الحنفي أيضا صحيحة ; لأنه بناها على الاجتهاد ، فلما اتفقت الأمة على فساد هذا الاقتداء دل على أن الحق واحد .
والجواب : أن الاتفاق في هذا غير مسلم ، فمن العلماء من جوز الاقتداء مع اختلاف المذاهب وهو منقدح ; لأن كل مصل يصلي لنفسه ولا يجب الاقتداء إلا بمن هو في صلاة ، وصلاة الإمام غير مقطوع ببطلانها فكيف يمتنع الاقتداء ؟ ولو بان كون الإمام جنبا ربما لم يجب قضاء الصلاة .
ولو سلمنا فنقول : إنما يجوز الاقتداء بمن صحت صلاته في حق المقتدي ، وللمقتدي أن يقول : صلاة الإمام صحيحة في حقه ; لأنها على وفق اعتقاده فاسدة في حقي ; لأنها على خلاف اعتقادي ، فظهر أثر صحتها في كل ما يخص المجتهد ; أما ما يتعلق بمخالفته فينزل منزلة الباطل . والاقتداء يتعلق بالمقتدي ، فصلاته لا تصلح لقدوة من يعتقد فسادها في حق نفسه وإن كان يعتقد صحتها في حق غيره
والدليل عليه أن الإمام وإن صلى بغير فاتحة فيحتمل صلاته الصحة بالاتفاق إذ الشافعي لا يقطع بخطئه فلم فسد اقتداؤه بمن تجوز صحة صلاته ويجوز بطلانها وكل إمام فيحتمل أن تكون صلاته باطلة بحدث أو نجاسة لا يعرفها المقتدي ولا تبطل صلاته بالاحتمال ، فلا سبب لها إلا أنها باطلة في اعتقاده وبموجب اجتهاده ، ونحن نقول : هي باطلة بموجب اعتقاده في حقه لا في حق إمامه وبطلانها في حقه كاف لبطلان اقتدائه .
الشبهة الرابعة : قولهم : إن صح تصويب المجتهدين فينبغي أن نطوي بساط المناظرات في الفروع ; لأن مقصود المناظرة دعوة الخصم إلى الانتقال عن مذهبه فلم يدع إلى الانتقال ، بل ينبغي أن يقال : ما اعتقدته فهو حق فلازمه فإنه لا فضل لمذهبي على مذهبك ، فالمناظرة إما واجبة وإما ندب وإما مفيدة ، ولا يبقى لشيء من ذلك وجه مع التصويب .
والجواب : أنا لا ننكر أن جماعة من ضعفة الفقهاء يتناظرون لدعوة الخصم إلى الانتقال ; لظنهم أن المصيب واحد ، بل لاعتقادهم في أنفسهم أنهم المصيبون وأن خصمهم مخطئ على التعيين ، أما المحصلون فلا يتناظرون في الفروع لذلك لكن يعتقدون وجوب المناظرة لغرضين واستحبابها لستة أغراض
أما الوجوب ففي موضعين :
أحدهما : أنه يجوز أن يكون في المسألة دليل قاطع من نص أو ما في معنى النص أو دليل عقلي قاطع فيما يتنازع فيه في تحقيق مناط الحكم ولو عثر عليه لامتنع الظن والاجتهاد فعليه المباحثة والمناظرة حتى ينكشف انتفاء القاطع الذي يأثم ويعصى بالغفلة عنه .
الثاني : أن يتعارض عنده دليلان ويعسر عليه الترجيح فيستعين بالمباحثة على طلب الترجيح ، فإنا وإن قلنا على رأي أنه يتخير فإنما يتخير إذا حصل اليأس عن طلب الترجيح وإنما يحصل اليأس بكثرة المباحثة .
وأما الندب ففي مواضع :
الأول : أن يعتقد فيه أنه معاند فيما يقوله غير معتقد له وأنه إنما يخالف حسدا أو عنادا أو نكرا ، فيناظر ليزيل عنهم معصية سوء الظن ويبين أنه يقوله عن اعتقاد واجتهاد .
الثاني : أن ينسب إلى الخطأ وأنه قد خالف دليلا قاطعا ، فيعلم جهلهم ،
[ ص: 359 ] فيناظر ليزيل عنهم الجهل كما أزال في الأول معصية التهمة .
الثالث : أن ينبه الخصم على طريقه في الاجتهاد حتى إذا فسد ما عنده لم يتوقف ولم يتخير وكان طريقه عنده عتيدا يرجع إليه إذا فسد ما عنده وتغير فيه ظنه .
الرابع : أن يعتقد أن مذهبه أثقل وأشد وهو لذلك أفضل وأجزل ثوابا فيسعى في استجرار الخصم من الفاضل إلى الأفضل ومن الحق إلى الأحق .
الخامس : أنه يفيد المستمعين معرفة طرق الاجتهاد ويذلل لهم ملكه ويحرك دواعيهم إلى نيل رتبة الاجتهاد ويهديهم إلى طريقه فيكون كالمعاونة على الطاعات والترغيب في القربات .
السادس ، وهو الأهم : وهو أن يستفيد هو وخصمه تذليل طرق النظر في الدليل حتى يترقى في الظنيات إلى ما ألحق فيه واحد من الأصول ، فيحصل بالمناظرة نوع من الارتياض وتشحيذ الخاطر وتقوية المنة في طلب الحقائق ليترقى به إلى نظر هو فرض عينه إن لم يكن في البلد من يقوم به أو كان قد وقع الشك في أصل من الأصول أو إلى ما هو فرض على الكفاية ، إذ لا بد في كل بلد من عالم ملي يكشف معضلات أصول الدين وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب متعين إن لم يكن إليه طريق سواه ، وإن كان إليه طريق سواه فيكون هو إحدى خصال الواجب ، فهذا في بعض الصور يلتحق بالمناظرة الواجبة .
فهذه فوائد مناظرات المحصلين دون الضعفاء المغترين حين يطلبون من الخصم الانتقال ويفتون بأنه يجب على خصمهم العمل بما غلب على ظنه وأنه لو وافقه على خلاف اجتهاد نفسه عصى وأثم وهل في عالم الله تناقض أظهر منه . فهذه شبههم العقلية ، أما الشبه النقلية فخمس الأولى : تمسكهم بقوله تعالى {
وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } وهذا يدل على اختصاص
سليمان بمدرك الحق وأن الحق واحد . الجواب من ثلاثة أوجه : الأول : أنه من أين صح أنهما بالاجتهاد حكما ومن العلماء من منع اجتهاد الأنبياء عقلا ومنهم من منعه سمعا ومن أجاز أحال الخطأ عليهم ؟ فكيف ينسب الخطأ إلى
داود ؟ عليه السلام ومن أين يعلم أنه قال ما قال عن اجتهاد ؟ عليه السلام الثاني : أن الآية أدل على نقيض مذهبهم إذ قال : {
وكلا آتينا حكما وعلما } والباطل والخطأ يكون ظلما وجهلا لا حكما وعلما ، ومن قضى بخلاف حكم الله تعالى لا يوصف بأنه حكم الله وأنه الحكم والعلم الذي آتاه الله لا سيما في معرض المدح والثناء .
فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : {
ففهمناها سليمان ؟ } قلنا : لا يلزمنا ذكر ذلك بعد أن أبطلنا نسبة الخطإ إلى
داود
الجواب الثالث : التأويل ، وهو أنها يحتمل أنهما كانا مأذونين في الحكم باجتهادهما فحكما وهما محقان ثم نزل الوحي على وفق اجتهاد
سليمان فصار ذلك حقا متعينا بنزول الوحي على
سليمان بخلافه ، لكن لنزوله على
سليمان أضيف إليه ويتعين تنزيل ذلك على الوحي ، إذ نقل المفسرون أن
سليمان حكم بأنه يسلم الماشية إلى صاحب الزرع حتى ينتفع بدرها ونسلها وصوفها حولا كاملا ; وهذا إنما يكون حقا وعدلا إذا علم أن الحاصل منه في جميع السنة يساوي ما فات على صاحب الزرع ، وذلك يدركه علام الغيوب ولا يعرف بالاجتهاد .
[ ص: 360 ] الشبهة الثانية : قوله تعالى : {
لعلمه الذين يستنبطونه منهم } وقوله : {
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } فدل على أن في مجال النظر حقا متعينا يدركه المستنبط وهذا فاسد من وجهين :
أحدهما : أنه ربما أراد به الحق فيما الحق فيه واحد من العقليات والسمعيات والقطعيات ، إذ منها ما يعلم بطريق قاطع نظري مستنبط .
والثاني أنه ليس فيه تخصيص بعض العلماء ، فكل ما أفضى إليه نظر عالم فهو استنباطه وتأويله وهو حق مستنبط وتأويل أذن للعلماء فيه دون العوام وجعل الحق في حق العوام الحق الذي استنبطه العلماء بنظرهم وتأويلهم فهذا لا يدل على تخطئة البعض .
الشبهة الثالثة : قوله عليه السلام : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=9555إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر } فدل أن فيه خطأ وصوابا ، وقد ادعيتم استحالة الخطإ في الاجتهاد .
والجواب من وجهين :
الأول : أن هذا هو القاطع على أن كل واحد مصيب إذ له أجر وإلا فالمخطئ الحاكم بغير حكم الله تعالى ، كيف يستحق الأجر ؟
الثاني : هو أنا لا ننكر إطلاق اسم الخطإ على سبيل الإضافة إلى مطلوبه لا إلى ما وجب عليه ، فإن الحاكم يطلب رد المال إلى مستحقه وقد يخطئ ذلك فيكون مخطئا فيما طلبه مصيبا فيما هو حكم الله تعالى عليه وهو اتباع ما غلب على ظنه من صدق الشهود ، وكذلك كل من اجتهد في القبلة ، يقال : أخطأ أي : أخطأ ما طلبه ولم يجب عليه الوصول إلى مطلوبه بل الواجب استقبال جهة يظن أن مطلوبه فيها .
فإن قيل : ولم كان للمصيب أجران وهما في التكليف وأداء ما كلفا سواء ؟ قلنا : لقضاء الله تعالى وقدره وإرادته ، فإنه لو جعل للمخطئ أجرين لكان له ذلك وله أن يضاعف الأجر على أخف العملين ; لأن ذلك منه تفضل ثم السبب فيه أنه أدى ما كلف وحكم بالنص إذ بلغه ، والآخر حرم الحكم بالنص إذ لم يبلغه ، ولم يكلف إصابته لعجزه ففاته فضل التكليف والامتثال ، وهذا ينقدح في كل مسألة فيها نص وفي كل اجتهاد يتعلق بتحقيق مناط الحكم كأروش الجنايات وقدر كفاية الأقارب فإن فيها حقيقة متعينة عند الله تعالى وإن لم يكلف المجتهد طلبها ، وهو جار في المسائل التي لا نص فيها عند من قال في كل مسألة حكم متعين وأشبه عند الله تعالى ، وسيأتي وجه فساده بعد هذا إن شاء الله تعالى
الشبهة الرابعة : تمسكهم بقوله تعالى : {
ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم } {
ولا تنازعوا فتفشلوا } {
ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } {
ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك } ، والإجماع منعقد على الحث على الألفة والموافقة والنهي عن الفرقة ، فدل أن الحق واحد ومذهبكم أن دين الله مختلف ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا .
والجواب من أوجه :
الأول : أن اختلاف الحكم باختلاف الأحوال في العلم والجهل والظن كاختلافه باختلاف السفر والإقامة والحيض والطهر والحرية والرق والاضطرار والاختيار .
الثاني : أن الأمة مجمعة على أنه يجب على المختلفين في الاجتهاد أن يحكم كل واحد بموجب اجتهاده وهو مخالف لغيره ، والأمر باتباع المختلف أمر بالاختلاف ، فهذا ينقلب عليكم إشكاله ، وإنما يصح هذا السؤال من منكري أصل الاجتهاد .
الثالث : وهو جواب منكري أصل الاجتهاد
[ ص: 361 ] أيضا أنه لو كان المراد ما ذكروه لما جاز للمجتهدين في القبلة أن يصلوا إلى جهات مختلفة مع أن القبلة عند الله تعالى واحدة ولما جاز في الكفارات المختلفة أن يعتق واحد ويصوم آخر ولما جاز للمضطرين إلى ميتة لا تفي برمق جميعهم أن يتقارعوا ولما جاز الاجتهاد في أروش الجنايات وتقدير النفقات وفي مصالح الحرب وكل ما سميناه بتحقيق مناط الحكم ; وذلك كله ضروري في الدين ، وليس مرادنا الاختلاف المنهي عنه بل المنهي عنه الاختلاف في أصول الدين وعلى الولاة والأئمة .
الشبهة الخامسة : قولهم : حسمتم إمكان الخطإ في الاجتهاد والصحابة مجمعون على الحذر من الخطإ ، حتى قال
nindex.php?page=showalam&ids=1أبو بكر رضي الله عنه : أقول في الكلالة برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمن الشيطان وقال
nindex.php?page=showalam&ids=8علي nindex.php?page=showalam&ids=2لعمر رضي الله عنهما : " إن لم يجتهدوا فقد غشوا وإن اجتهدوا فقد أخطئوا ، أما الإثم فأرجو أن يكون عنك زائلا وأما الدية فعليك " ولما كتب
أبو موسى كتابا عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر كتب فيه " هذا ما أرى الله
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر " فقال امحه واكتب هذا ما رأى
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر فإن يك خطأ فمن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر وقال في جواب المرأة التي ردت عليه في النهي عن المبالغة في المهر حيث ذكرت القنطار في الكتاب : " أصابت امرأة وأخطأ
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر وقال
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود في المفوضة : " إن كان خطأ فمني ومن الشيطان " بعد أن اجتهد شهرا .
الجواب أنا نثبت الخطأ في أربعة أجناس : " أن يصدر الاجتهاد من غير أهله ، أو لا يستتم المجتهد نظره ، أو يضعه في غير محله بل في موضع فيه دليل قاطع ، أو يخالف في اجتهاده دليلا قاطعا كما ذكرناه في باب مثارات إفساد القياس ، وأنا ذكرنا عشرة أوجه تبطل القياس قطعا لا ظنا ، فجميع هذا مجال الخطإ .
وإنما ينتفي الخطأ متى صدر الاجتهاد من أهله وتم في نفسه ووضع في محله ولم يقع مخالفا لدليل قاطع ، ثم مع ذلك كله يثبت اسم الخطإ بالإضافة إلى طلب لا إلى ما وجب كما في القبلة وتحقيق مناط الأحكام ، فمن ذكره من الصحابة فأما إن كان اعتقد أن الخطأ ممكن وذهب مذهب من قال : المصيب واحد أو خاف على نفسه أن يكون قد خالف دليلا قاطعا غفل عنه ، أو لم يستتم نظره ولم يستفرغ تمام وسعه ، أو يخاف أن لا يكون أهلا للنظر في تلك المسألة أو أمن ذلك كله لكن قال ما قال إظهارا للتواضع والخوف من الله تعالى كما يقولون : " أنا مؤمن بالله إن شاء الله " مع أنهم لم يشكوا في إيمانهم .
ثم جميع ما ذكروا أخبار آحاد لا يقوم بها حجة ويتطرق إليها الاحتمال المذكور فلا يندفع بها البراهين القاطعة التي ذكرناها :