مسألة : القول في
نفي حكم معين في المجتهدات
أما من ذهب إلى أن المصيب واحد فقد وضع في كل مسألة حكما معينا هو قبلة الطالب ومقصد طلبه فيصيب أو يخطئ ; أما المصوبة فقد اختلفوا فيه فذهب بعضهم إلى إثباته وإليه تشير نصوص
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله ; لأنه لا بد للطالب من مطلوب ، وربما عبروا عنه بأن مطلوب المجتهد الأشبه عند الله تعالى والأشبه معين عند الله . والبرهان الكاشف للغطاء عن هذا الكلام المبهم هو أنا نقول : المسائل منقسمة إلى ما ورد فيها نص وإلى ما لم يرد ، أما ما ورد فيه نص فالنص كأنه مقطوع به من جهة الشرع لكن لا يصير حكما في حق المجتهد إلا إذا بلغه وعثر عليه أو كان عليه
[ ص: 362 ] دليل قاطع يتيسر معه العثور عليه إن لم يقصر في طلبه ، فهذا مطلوب المجتهد وطلبه واجب وإذا لم يصب فهو مقصر آثم .
أما إذا لم يكن إليه طريق متيسر قاطع كما في النهي عن المخابرة وتحويل القبلة قبل بلوغ الخبر فقد بينا أن ذلك حكم في حق من بلغه لا في حق من لم يبلغه ; لكنه عرضة أن يصير حكما فهو حكم بالقوة لا بالفعل ، وإنما يصير حكما بالبلوغ أو تيسر طريقه على وجه يأثم من لا يصيبه . فمن قال : في هذه المسائل حكم معين لله تعالى وأراد به أنه حكم موضوع ليصير حكما في حق المكلف إذا بلغه وقبل البلوغ وتيسر الطريق ليس حكما في حقه بالفعل بل بالقوة فهو صادق ، وإن أراد به غيره فهو باطل .
أما المسائل التي لا نص فيها فيعلم أنه لا حكم فيها ; لأن حكم الله تعالى خطابه وخطابه يعرف بأن يسمع من الرسول أو يدل عليه دليل قاطع من فعل النبي عليه السلام أو سكوته ، فإنه قد يعرفنا خطاب الله تعالى من غير استماع صيغة فإذا لم يكن خطاب لا مسموع ولا مدلول عليه فكيف يكون فيه حكم ؟ فقليل النبيذ إن اعتقد فيه كونه عند الله حراما فمعنى تحريمه أنه قيل فيه : لا تشربوه .
وهذا خطاب والخطاب يستدعي مخاطبا والمخاطب به هم الملائكة أو الجن أو الآدميون ، ولا بد أن يكون المخاطب به هم المكلفون من الآدميين ، ومتى خوطبوا ولم ينزل فيه نص بل هو مسكوت عنه غير منطوق به ولا مدلول عليه بدليل قاطع سوى النطق ; فإذا لا يعقل خطاب لا مخاطب به كما لا يعقل علم لا معلوم له وقتل لا مقتول له ، ويستحيل أن يخاطب من لا يسمع الخطاب ولا يعرفه بدليل قاطع . فإن قيل : عليه أدلة ظنية .
قلنا : قد بينا أن تسمية الأمارات أدلة مجاز ، فإن الأمارات لا توجب الظن لذاتها بل تختلف بالإضافة ، فما لا يفيد الظن لزيد فقد يفيد لعمرو وما يفيد لزيد حكما فقد يفيد لعمرو ونقيضه ، وقد يختلف تأثيره في حق زيد في حالتين فلا يكون طريقا إلى المعرفة ولو كان طريقا لعصى إذا لم يصبه ، فسبب هذا الغلط إطلاق اسم الدليل على الأمارات مجازا فظن أنه دليل محقق وإنما الظن عبارة عن ميل النفس إلى شيء واستحسان المصالح كاستحسان الصور ، فمن وافق طبعه صورة مال إليها وعبر عنها بالحسن ، وذلك قد يخالف طبع غيره فيعبر عنه بالقبح حيث ينفر عنه ; فالأسمر حسن عند قوم قبيح عند قوم ، فهي أمور إضافية ليس لها حقيقة في نفسها ، فلو قال قائل : الأسمر حسن عند الله أو قبيح ؟
قلنا : لا حقيقة لحسنه وقبحه عند الله إلا موافقته لبعض الطباع ومخالفته لبعضها ، وهو عند الله كما هو عند الناس ، فهو عند الله حسن عند زيد قبيح عند عمرو ، إذ لا معنى لحسنه إلا موافقته طبع زيد ولا معنى لقبحه إلا مخالفته لطبع عمرو . وكذلك تحريك الرغبة للفضائل والتفاوت في العطاء هو حسن عند
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر رضي الله عنه موافق لرأيه ، وهو بعينه ليس موافقا
لأبي بكر رضي الله عنه بل الحسن عنده أن يجعل الدنيا بلاغا ولا يلتفت إليها .
فهذه الحقيقة في الظنون ينبغي أن تفهم حتى ينكشف الغطاء ، وإنما غلط فيه الفقهاء من حيث ظنوا أن الحلال والحرام وصف للأعيان كما ظن قوم أن الحسن والقبح وصف للذوات . فإن قيل : نحن لا ننكر أن ما لم يرد فيه نطق ولا دليل قاطع فليس فيه حكم نازل موضوع ، لكن نعني بالأشبه فيما هو قبلة للطالب الحكم الذي كان الله ينزله لو نزله وربما كان الشارع يقوله لو روجع في تلك المسألة . قلنا : هذا هو
[ ص: 363 ] الحكم بالقوة وما كان ينزل لو نزل إنما يكون حكما ولو نزل فقبل نزوله ليس حكما فقد ظهر أنه لا حكم ; ومن أخطأ لم يخطئ الحكم بل أخطأ ما كان لعله سيصير حكما لو جرى في تقدير الله إنزاله ولم يجر في تقديره فلا معنى له
ويلزم من هذا أن يجوز خطأ المجتهدين جميعا في تقديره وإصابة المجتهدين جميعا ، فإنه ربما كان ينزل لو أنزل التخيير بين المذهبين وتصويب كل من قال فيه قولا كيفما قال أو ينزل تخطئة كل من قطع القول بإثبات أو نفي حيث لم يتخير بين الحكمين ، فإن هذه التجويزات لا تنحصر فربما يعلم الله صلاح العباد في أن لا يضع في الوقائع حكما بل يجعل حكمها تابعا لظن المجتهدين فتعبدهم بما يظنون ويبطل مذهب من يقول فيها بحكم معين فيكون في هذا تخطئة كل من أثبت من المجتهدين حكما معينا نفيا أو إثباتا .
احتجوا بأن قالوا : إنما اضطرنا إلى هذا ضرورة الطلب فإنه يستدعي مطلوبا ; فمن علم أن الجماد ليس بعالم ولا جاهل لا يتصور أن يطلب الظن أو العلم بجهله وعلمه ، ومن اعتقد أن العالم خال عن وصف القدم والحدوث هل يتصور أن يطلب ما يعتقد انتفاءه ؟ فإذا اعتقد الطالب أن قليل النبيذ ليس عند الله حراما ولا حلالا فكيف يجتهد في طلب أحدهما ؟
قلنا : فقد أخطأتم إذ ظننتم أن المجتهد يطلب حكم الله مع علمه بأن حكم الله خطابه ، فإن الواقعة لا نص فيها ولا خطاب بل إنما يطلب غلبة الظن ، وهو كمن كان على ساحل البحر وقيل له : إن غلب على ظنك السلامة أبيح لك الركوب ، وإن غلب على ظنك الهلاك حرم عليك الركوب . وقبل حصول الظن لا حكم لله عليك وإنما حكمه يترتب على ظنك ويتبع ظنك بعد حصوله ، فهو يطلب الظن دون الإباحة والتحريم . فإن قيل : هذا في البحر معقول ; لأنه ينظر في أمارات الهلاك والسلامة فذلك مطلوبه ، والإباحة والتحريم أمر وراءه وفي مسألتنا لا مطلوب سوى الحكم .
قلنا : من ههنا غلطتم ، فإنه لا فرق بين الصورتين ; ونحن نكشف ذلك بالأمثلة فنقول : لو قلنا للشارع : ما حكم الله تعالى في العطاء الواجب التسوية أو التفضيل ؟ ؟ فقال : حكم الله على كل إمام ظن أن الصلاح في التسوية هو التسوية ، وحكمه على كل من ظن أن المصلحة في التفضيل التفضيل ، ولا حكم عليهم قبل تحصيل الظن إنما يتجدد حكمه بالظن وبعده كما يتجدد الحكم على راكب البحر بعد الظن ويتجدد على قاضيين شهد عندهما في واقعتين شخصان وجوب القبول ووجوب الرد عند ظن الصدق وظن الكذب ، فيجب على أحدهما التصديق وعلى الآخر التكذيب .
وكذلك إذا قلنا : ما حكمه في قليل النبيذ ؟ فقال : حكمه تحريم الشرب على من ظن أني حرمت قليل الخمر ; لأنه يدعوه إلى كثيره والتحليل لمن ظن أني حرمت الخمر لعينها إلا لهذه العلة ولا حكم لله تعالى قبل هذا الظن . وكذلك إذا قلنا : ما حكم الله في قيمة العبد ، أتضرب على العاقلة أم على الجاني ؟ فقال : حكم الله تعالى على من ظن أنه بالحر أشبه الضرب على العاقلة وعلى من ظن أنه بالبهيمة أشبه الضرب على الجاني .
وكذلك نقول : ما حكم الله في المفاضلة في بيع الجص والبطيخ ؟ فقال : حكم الله على من ظن أني حرمت ربا الفضل في البر لأنه مطعوم تحريم البطيخ دون الجص وعلى من ظن أني حرمته للكيل تحريم الجص دون البطيخ . فإن قيل : فما علة تحريم ربا البر عند الله أهي الطعم أم
[ ص: 364 ] الكيل أو القوت ؟
فنقول : كل واحد من الطعم والكيل لا يصلح أن يكون علة لذاتها بل معنى كونها علة أنها علامة ، فمن ظن أن الكيل علامة فهو علامة في حقه دون من ظن أن علامته الطعم وليست العلة وصفا ذاتيا كالقدم والحدوث للعالم حتى يجب أن يكون في علم الله على أحد الوصفين لا محالة ، بل هو أمر وضعي والوضع يختلف بالإضافة وقد وضعته كذلك ، فهذا لو صرح الشارع به فهو معقول وجانب الخصم لو صرح به كان محالا ، وهو أن يكون لله حكم ليس بخطاب
ولا يتعلق بمخاطب ومكلف ، فإن هذا يضاد حد الحكم وحقيقته ، أو يقول تعلق به لكن لا طريق له إلى معرفته فهو محال لما فيه من تكليف ما لا يطاق ، أو يقول : له طريق إلى معرفته وقد أمر به لكنه لا يعصي بتركه ، فهو أيضا يضاد حد الواجب ويضاد حد الإجماع المنعقد على أن المجتهد يجب عليه العمل بموجب اجتهاده ، فكيف يجب عليه مع ذلك ضده ؟ وكيف يكون مأمورا باستقبال القبلة من غلب على ظنه أن يقال : القبلة في جهة أخرى ؟ بل بالإجماع لو خالف اجتهاد نفسه واستقبل جهة أخرى فاتفق أن كان جهة القبلة عصى ولزمه القضاء ، فاستبان أن ذلك الاجتهاد الشرعي على الممكن دون المحال . هذا حكم التأثيم والتصويب ، ونذكر بقية أحكام الاجتهاد في صور مسائل .