الباب الأول :
فيما ترجح به الأخبار .
اعلم أن التعارض هو التناقض ، فإن كان في خبرين فأحدهما كذب والكذب محال على الله ورسوله ، وإن كان في حكمين من أمر ونهي وحظر وإباحة فالجمع تكليف محال فإما أن يكون أحدهما كذبا أو يكون متأخرا ناسخا ، وإمكان الجمع بينهما بالتنزيل على حالتين كما إذا قال : الصلاة واجبة على أمتي الصلاة غير واجبة على أمتي ; فنقول : أراد بالأول المكلفين وأراد بالثاني الصبيان والمجانين أو في حالتي العجز والقدرة أو في زمن دون زمن . وإن عجزنا عن الجمع وعن معرفة المتقدم والمتأخر رجحنا وأخذنا بالأقوى .
وتقوي الخبر في نفوسنا بصدق الراوي وصحته ، وتضعيف الخبر في نفوسنا إما باضطراب في متنه أو بضعف في سنده أو بأمر خارج من السند والمتن ; أما ما يتعلق بالسند والمتن فسبعة عشر :
الأول سلامة متن أحد الخبرين عن الاختلاف والاضطراب دون الآخر فسلامته مرجحة فإن ما لا يضطرب فهو بقول الرسول أشبه ، فإن انضاف إلى اضطراب اللفظ اضطراب المعنى كان أبعد عن أن يكون قول الرسول فيدل على الضعف وتساهل الراوي في الرواية . فإن قيل : فيجب أن تكون رواية الزيادة في متن الحديث اضطرابا يوجب اطراحه .
قلنا : لا يجب ; لأنه في معنى خبرين منفصلين إلا أن يعرف محدث بكثرة الانفراد بالرواية عن الحفاظ فيجوز أن يقدم خبر غيره على خبره .
الثاني اضطراب السند بأن يكون في أحدهما ذكر رجال تلتبس أسماؤهم ونعوتهم وصفاتهم بأسماء قوم ضعفاء وصفاتهم بحيث يعسر التمييز .
الثالث : أن يروي أحدهما في تضاعيف قصة مشهورة متداولة بين أهل النقل ومعارضه قد
[ ص: 377 ] انفرد به الراوي لا في جملة القصة ، فما روى في الجماعة أقوى في النفوس وأقرب إلى السلامة من الغلط مما يرويه الواحد عاريا عن قصته المشهورة .
الرابع : أن يكون راويه معروفا بزيادة التيقظ وقلة الغلط ، فالثقة بروايته عند الناس أشد .
الخامس : أن يقول أحدهما سمعنا النبي عليه السلام والآخر أن يقول كتب إلي بكذا ، فإن التحريف والتصحيف في المكتوب أكثر منه في المسموع .
السادس : أن يتطرق الخلاف إلى أحد الخبرين أنه موقوف على الراوي أو مرفوع ، فالمتفق على كونه مرفوعا أولى .
السابع : أن يكون منسوبا إليه نصا وقولا والآخر ينسب إليه اجتهادا بأن يروى أنه كان في زمانه أو في مجلسه ولم ينكره ، فما نسب إليه قولا ونصا أقوى ; لأن النص غير محتمل وما في زمانه ربما لم يبلغه وما في مجلسه ربما غفل عنه .
الثامن : أن يروى أحد الخبرين عمن تعارضت الرواية عنه فنقل عنه أيضا ضده فيقدم عليه ما لم يتعارض ; لأن المتعارض متساقط فيبقى الآخر سليما عن المعارضة .
التاسع : أن يكون الراوي صاحب الواقعة فهو أولى بالمعرفة من الأجنبي ، فرواية
ميمونة {
nindex.php?page=hadith&LINKID=16741تزوجني النبي عليه السلام ونحن حلالان بعد ما رجع } مقدمة على رواية
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس {
nindex.php?page=hadith&LINKID=8365أنه نكحها وهو حرام }
العاشر : أن يكون أحد الراويين أعدل وأوثق وأضبط وأشد تيقظا وأكثر تحريا .
الحادي عشر : أن يكون أحدهما على وفق عمل أهل
المدينة فهو أقوى ; لأن ما رآه
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك رحمه الله حجة وإجماعا إن لم يصلح حجة فيصلح للترجيح ; لأن
المدينة دار الهجرة ومهبط الوحي الناسخ فيبعد أن ينطوي عليهم .
الثاني عشر : أن يوافق أحد الخبرين مرسل غيره فيرجح به من يرجح بكثرة الرواة ; لأن المرسل حجة عند قوم فإن لم يكن حجة فلا أقل من أن يكون مرجحا .
الثالث عشر : أن تعمل الأمة بموجب أحد الخبرين ، فإنه إذا احتمل أن يكون عملهم بدليل آخر فيحتمل أن يكون هذا الخبر فيكون صدقه أقوى في النفس
الرابع عشر : أن يشهد القرآن أو الإجماع أو النص المتواتر أو دليل العقل لوجوب العمل على وفق الخبر فيرجح به .
فإن قيل : ذلك قاطع في تصديقه . قلنا : لا ، بل يتصور أن يكذب على النبي عليه السلام فيما يوافق القرآن والإجماع فيقول : سمعت ما لم يسمعه ، وإنما يجب صدقه إذا اجتمعت الأمة على صدقه لا إذا اجتمعت على عمل يوافق خبره ولعله عن دليل آخر .
الخامس عشر : أن يكون أحدهما أخص والآخر أعم فيقدم ما هو أخص بالمقصود ، كتقديم قوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=25048في الرقة ربع العشر } في إيجابه على الطفل والبالغ على قوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=19570رفع القلم عن ثلاثة } لأن هذا تعرض لنفي الخطاب العام وليس بتعرض للزكاة ولا لسقوط الزكاة عن الولي بإخراج زكاته ، والحديث الأول متعرض لخصوص الزكاة ومتناول لعمومه مال الصبي فهو أخص وأمس بالمقصود .
السادس عشر : أن يكون أحدهما مستقلا بالإفادة ومعارضه لا يفيد إلا بتقدير إضمار أو حذف وذلك مما يتطرق إليه زيادة التباس لا يتطرق إلى المستقل .
السابع عشر أن يكون رواة أحد الخبرين أكثر فالكثرة تقوي الظن ولكن رب عدل أقوى في النفس من عدلين لشدة تيقظه وضبطه ، والاعتماد في ذلك على ما غلب على ظن المجتهد . هذا ما يوجب الترجيح لأمر في سند الخبر أو في متنه ; وقد يرجح لأمور خارجة عنها وهي خمسة :
الأول : كيفية استعمال الخبر في محل الخبر كقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=31085لا نكاح إلا بولي } مع
[ ص: 378 ] قوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=13824الأيم أحق بنفسها من وليها } لأنا نحمل ذلك على أنها أحق بنفسها في الإذن لا في العقد ، واللفظ يعم الإذن والعقد وهم يحملون خبرنا على الصغيرة أو الأمة أو النكاح من غير كفء ، والخلاف واقع في الكبيرة وهم صرفوا خبرنا عن محل الخلاف ونحن استعملنا الخبرين في الكبيرة ، فتأويلنا أقرب فإنه لا ينبو عنه اللفظ بل كان اللفظ محتملا لهما ، أما تنزيل خبرنا على الصغيرة والأمة فبعيد .
الثاني : أن يكون أحد الخبرين يوجب غضا من منصب الصحابة فيكون أضعف ، كما رووا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بإعادة الوضوء عند القهقهة ، فخبرنا وهو قوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=28141كان يأمرنا إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا إلا من جنابة لا من بول أو غائط أو نوم } وليس فيه القهقهة ، فهو أولى من خبرهم .
الثالث : أن يكون أحد الخبرين متنازعا في خصوصه ، والآخر متفق على تطرق الخصوص إليه فقد قال قوم : إنه يسقط الاحتجاج به فإن لم يصح ذلك فيدل على ضعفه لا محالة .
الرابع : أن يكون أحد الخبرين قد قصد به بيان الحكم المتنازع فيه دون الآخر كقوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=8962أيما إهاب دبغ فقد طهر } لم يفرق فيه بين ما يؤكل وبين ما لا يؤكل ، فدلالة عمومه على جلد ما لا يؤكل أقوى من دلالة نهيه عن افتراش جلود السباع ; لأنه ما سيق لبيان النجاسة والطهارة بل ربما نهى عن الافتراش للخيلاء أو لخاصية لا نعقلها .
الخامس : أن يتضمن أحد الخبرين إثبات ما ظهر تأثيره في الحكم دون الآخر حتى تقدم رواية
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس أن
بريرة أعتقت تحت عبد على ما روي أنها أعتقت تحت حر ; لأن ضرورة الرق في الخيار قد ظهر أثره ولا يجري ذلك في الحر