بيان مرتبة هذا العلم ونسبته إلى العلوم
اعلم أن العلوم تنقسم إلى عقلية كالطب والحساب والهندسة وليس ذلك من غرضنا . وإلى دينية كالكلام والفقه وأصوله وعلم الحديث وعلم التفسير وعلم الباطن ، أعني علم القلب وتطهيره عن الأخلاق الذميمة وكل واحد من العقلية والدينية ينقسم إلى كلية وجزئية .
فالعلم الكلي من العلوم الدينية هو الكلام وسائر العلوم من الفقه وأصوله والحديث والتفسير علوم جزئية ، لأن المفسر لا ينظر إلا في معنى الكتاب خاصة والمحدث لا ينظر إلا في طريق ثبوت الحديث خاصة ، والفقيه لا ينظر إلا في أحكام أفعال المكلفين خاصة ، والأصولي لا ينظر إلا في أدلة الأحكام الشرعية خاصة والمتكلم هو الذي ينظر في أعم الأشياء وهو الموجود ، فيقسم الموجود أولا إلى قديم حادث ، ثم يقسم المحدث إلى جوهر وعرض ، ثم يقسم العرض إلى ما تشترط فيه الحياة من العلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر وإلى ما يستغني عنها كاللون والريح والطعم ، ويقسم الجوهر إلى الحيوان والنبات والجماد ويبين أن اختلافها بالأنواع أو بالأعراض .
ثم ينظر في القديم فيبين أنه لا يتكثر ولا ينقسم انقسام الحوادث ، بل لا بد أن يكون واحدا وأن يكون متميزا عن الحوادث بأوصاف تجب له وبأمور تستحيل عليه وأحكام تجوز في حقه ولا تجب ولا تستحيل ، ويفرق بين الجائز والواجب والمحال في حقه .
ثم يبين أن أصل الفعل جائز عليه ، وأن العالم فعله الجائز ، وأنه لجوازه افتقر إلى محدث ، وأن بعثة الرسل من أفعاله الجائزة ، وأنه قادر عليه وعلى تعريف صدقهم بالمعجزات ، وأن هذا الجائز واقع . عند هذا ينقطع كلام المتكلم وينتهي تصرف العقل ، بل العقل يدل على صدق النبي . ثم يعزل نفسه ويعترف بأنه يتلقى من النبي بالقبول ما يقوله في الله واليوم الآخر مما يستقل العقل بدركه ولا يقضي أيضا باستحالته فقد يرد الشرع بما يقصر العقل عن الاستقلال بإدراكه إذ لا يستقل العقل بإدراك كون الطاعة سببا للسعادة في الآخرة وكون المعاصي للشقاوة ، لكنه لا يقضي باستحالته أيضا ، ويقضي بوجوب صدق من دلت المعجزة على صدقه ، فإذا أخبر عنه صدق العقل به بهذه الطريق فهذا ما يحويه علم الكلام فقد عرفت هذا أنه يبتدئ نظره في أعم الأشياء أولا وهو الموجود ، ثم ينزل بالتدريج إلى التفصيل الذي ذكرناه فيثبت فيه مبادئ سائر العلوم الدينية من الكتاب والسنة وصدق الرسول ، فيأخذ المفسر من جملة ما نظر فيه المتكلم واحدا خاصا وهو الكتاب فينظر في تفسيره ، ويأخذ المحدث واحدا خاصا وهو السنة فينظر في طرق ثبوتها ، والفقيه يأخذ واحدا خاصا وهو فعل المكلف فينظر في نسبته إلى خطاب الشرع من حيث الوجوب والحظر والإباحة ، ويأخذ الأصولي واحدا خاصا وهو قول الرسول الذي دل المتكلم على صدقه فينظر في وجه دلالته على الأحكام إما بملفوظه أو بمفهومه أو بمعقول معناه ومستنبطه ، ولا يجاوز نظر الأصولي قول الرسول عليه السلام وفعله .
فإن الكتاب
[ ص: 7 ] إنما يسمعه من قوله والإجماع يثبت بقوله والأدلة هي الكتاب والسنة والإجماع فقط وقول الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يثبت صدقه وكونه حجة في علم الكلام .
فإذا الكلام هو المتكفل بإثبات مبادئ العلوم الدينية كلها ، فهي جزئية بالإضافة إلى الكلام ،
فالكلام هو العلم الأعلى في الرتبة إذ منه النزول إلى هذه الجزئيات فإن قيل : فليكن من شرط الأصولي والفقيه والمفسر والمحدث أن يكون قد حصل علم الكلام لأنه قبل الفراغ من الكلي الأعلى كيف يمكنه النزول إلى الجزئي الأسفل ؟
قلنا : ليس ذلك شرطا في كونه أصوليا وفقيها ومفسرا ومحدثا وإن كان ذلك شرطا في كونه عالما مطلقا مليئا بالعلوم الدينية ، وذلك أنه ما من علم من العلوم الجزئية إلا وله مباد تؤخذ مسلمة بالتقليد في ذلك العلم ويطلب برهان ثبوتها في علم آخر .
فالفقيه ينظر في نسبة فعل المكلف إلى خطاب الشرع في أمره ونهيه وليس عليه إقامة البرهان على إثبات الأفعال الاختياريات للمكلفين فقد أنكرت
الجبرية فعل الإنسان وأنكرت طائفة وجود الأعراض والفعل عرض . ولا على الفقيه إقامة البرهان على ثبوت خطاب الشرع وأن لله تعالى كلاما قائما بنفسه هو أمر ونهي ، ولكن يأخذ ثبوت الخطاب من الله تعالى وثبوت الفعل من المكلف على سبيل التقليد وينظر في نسبة الفعل إلى الخطاب فيكون قد قام بمنتهى علمه . وكذلك الأصولي يأخذ بالتقليد من المتكلم أن قول الرسول حجة ودليل واجب الصدق ، ثم ينظر في وجوه دلالته وشروط صحته .
فكل عالم بعلم من العلوم الجزئية فإنه مقلد لا محالة في مبادئ علمه إلى أن يترقى إلى العلم الأعلى فيكون قد جاوز علمه إلى علم آخر .