المسلك الثاني : في
إحالة النسخ قبل التمكن . قولهم : الأمر والنهي عندكم كلام الله تعالى القديم ، وكيف يكون الكلام الواحد أمرا بالشيء الواحد ونهيا عنه في وقت واحد ؟ بل كيف يكون الرافع والمرفوع واحدا والناسخ والمنسوخ كلام الله تعالى ؟ قلنا : هذا إشارة إلى إشكالين
أحدهما : كيفية اتحاد كلام الله تعالى ، ولا يختص ذلك بهذه المسألة بل ذلك عندنا كقولهم : العالمية حالة واحدة ينطوي فيها العلم بما لا نهاية له من التفاصيل ، وإنما يحل إشكاله في الكلام .
وأما الثاني : فهو أن كلامه واحد ، وهو أمر بالشيء ونهي عنه ، ولو علم المكلف ذلك دفعة واحدة لما تصور منه اعتقاد الوجوب والعزم على الأداء ولم يكن ذلك منه بأولى من اعتقاد التحريم والعزم على الترك ، فنقول كلام الله تعالى في نفسه واحد ، وهو بالإضافة إلى شيء أمر وبالإضافة إلى شيء خبر ، ولكنه إنما يتصور الامتحان به إذا سمع المكلف كليهما في وقتين ولذلك شرطنا التراخي في النسخ ولو سمع كليهما في وقت واحد لم يجز .
وأما
جبريل عليه السلام فإنه يجوز أن يسمعه في وقت واحد إذ لم يكن هو مكلفا ثم يبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم في وقتين إن كان ذلك الرسول داخلا تحت التكليف ، فإن لم يكن فيبلغ في وقت واحد لكن يؤمر بتبليغ الأمة في وقتين ، فيأمرهم مطلقا بالمسالمة وترك قتال الكفار ومطلقا باستقبال
بيت المقدس في كل صلاة ، ثم ينهاهم عنها بعد ذلك فيقطع عنهم حكم الأمر المطلق كما يقطع حكم العقد بالفسخ .
ومن أصحابنا من قال :
الأمر لا يكون أمرا قبل بلوغ المأمور ، فلا يكون أمرا ونهيا في حالة واحدة بل في حالتين . فهذا أيضا يقطع التناقض ويدفعه . ثم الدليل القاطع من جهة السمع على جوازه قصة
إبراهيم عليه السلام ونسخ ذبح ولده عنه قبل الفعل ، وقوله تعالى : {
وفديناه بذبح عظيم } فقد أمر بفعل واحد ولم يقصر في البدار والامتثال ثم نسخ عنه .
وقد اعتاص هذا على
القدرية حتى تعسفوا في تأويله وتحزبوا فرقا وطلبوا الخلاص من خمسة أوجه :
أحدها : أن ذلك كان مناما لا أمرا .
الثاني : أنه كان أمرا لكن قصد به تكليفه العزم على الفعل لامتحان سره في صبره على العزم ، فالذبح لم يكن مأمورا به .
الثالث : أنه لم ينسخ الأمر لكن قلب الله تعالى عنقه نحاسا أو حديدا فلم ينقطع ، فانقطع التكليف لتعذره .
الرابع : المنازعة في المأمور وأن المأمور به كان هو الإضجاع والتل للجبين وإمرار السكين دون حقيقة الذبح .
الخامس : جحود النسخ وأنه ذبح امتثالا فالتأم واندمل . والذاهبون إلى هذا التأويل اتفقوا على أن
إسماعيل ليس بمذبوح . واختلفوا في كون
إبراهيم عليه السلام ذابحا ، فقال قوم : هو ذابح للقطع والولد غير مذبوح لحصول الالتئام وقال قوم : ذابح لا مذبوح له محال وكل ذلك تعسف وتكلف . 0 أما الأول وهو كونه مناما ،
فمنام الأنبياء جزء من النبوة وكانوا يعرفون أمر الله تعالى به ، فلقد كانت نبوة جماعة من الأنبياء عليهم السلام بمجرد المنام .
ويدل على فهمه الأمر قول ولده : افعل ما تؤمر ، ولو لم يؤمر لكان كاذبا ، وإنه لا يجوز قصد الذبح والتل للجبين بمنام لا أصل له ، وإنه سماه البلاء المبين
[ ص: 93 ] وأي بلاء في المنام وأي معنى للفداء .
وأما الثاني وهو أنه كان مأمورا بالعزم اختبارا ، فهو محال ، لأن علام الغيوب لا يحتاج إلى الاختبار ولأن الاختبار إنما يحصل بالإيجاب ، فإن لم يكن إيجاب لم يحصل اختبار .
وقولهم العزم هو الواجب محال ; لأن العزم على ما ليس بواجب لا يجب بل هو تابع للمعزوم ، ولا يجب العزم ما لم يعتقد وجوب المعزوم عليه . ولو لم يكن المعزوم عليه واجبا لكان
إبراهيم عليه السلام أحق بمعرفته من
القدرية ، كيف وقد قال إني أرى في المنام أني أذبحك فقال له ولده افعل ما تؤمر يعني الذبح ؟ وقوله تعالى {
وتله للجبين } استسلام لفعل الذبح لا للعزم .
وأما الثالث : وهو أن الإضجاع بمجرده هو المأمور به ; فهو محال إذ لا يسمى ذلك ذبحا ولا هو بلاء ولا يحتاج إلى الفداء بعد الامتثال .
وأما الرابع ، وهو إنكار النسخ وأنه امتثال لكن انقلب عنقه حديدا ففات التمكن فانقطع التكليف ، فهذا لا يصح على أصولهم ; لأن الأمر بالمشروط لا يثبت عندهم ، بل إذا علم الله تعالى أنه يقلب عنقه حديدا فلا يكون آمرا بما يعلم امتناعه فلا يحتاج إلى الفداء فلا يكون بلاء في حقه .
وأما الخامس ، وهو أنه فعل والتأم ، فهو محال ; لأن الفداء كيف يحتاج إليه بعد الالتئام ؟ ولو صح ذلك لاشتهر وكان ذلك من آياته الظاهرة ولم ينقل ذلك قط وإنما هو اختراع من
القدرية . فإن قيل : أليس قد قال : {
قد صدقت الرؤيا } . قلنا : معناه أنك عملت في مقدماته عمل مصدق بالرؤيا ، والتصديق غير التحقيق والعمل .