فصل [ مسألة الزبية ]
ومما أشكل على كثير من الفقهاء من قضايا الصحابة وجعلوه من أبعد الأشياء عن القياس مسألة التزاحم ، وسقوط المتزاحمين في البئر ، وتسمى {
nindex.php?page=hadith&LINKID=35114مسألة الزبية . وأصلها أن قوما من أهل اليمن حفروا زبية للأسد ; فاجتمع الناس على رأسها ، فهوى فيها واحد ، فجذب ثانيا ، فجذب الثاني ثالثا ، فجذب الثالث رابعا ، فقتلهم الأسد ، فرفع ذلك إلى أمير المؤمنين nindex.php?page=showalam&ids=8علي كرم الله وجهه في الجنة وهو على اليمن ، فقضى للأول بربع الدية ، وللثاني بثلثها ، وللثالث بنصفها ، وللرابع بكمالها ، وقال : أجعل الدية على من حضر رأس البئر ; فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هو كما قال } رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور في سننه ، ثنا
أبو عوانة nindex.php?page=showalam&ids=11820وأبو الأحوص عن
سماك بن حرب عن
nindex.php?page=showalam&ids=15775حنش الصنعاني عن
nindex.php?page=showalam&ids=8علي ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11851أبو الخطاب وغيره : ذهب
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد إلى هذا توقيفا على خلاف القياس .
والصواب أنه مقتضى القياس والعدل ، وهذا يتبين بأصل ، وهو أن الجناية إذا حصلت من فعل مضمون ومهدر سقط ما يقابل المهدر واعتبر ما يقابل المضمون ، كما لو
قتل عبدا مشتركا بينه وبين غيره ، أو أتلف مالا مشتركا أو حيوانا سقط ما يقابل حقه ووجب عليه ما يقابل حق شريكه ، وكذلك لو
اشترك اثنان في إتلاف مال أحدهما أو قتل عبده أو حيوانه سقط عن المشارك ما يقابل فعله ، ووجب على الآخر من الضمان بقسطه ، وكذلك لو
اشترك هو وأجنبي في قتل نفسه كان على الأجنبي نصف الضمان وكذلك لو
رمى ثلاثة [ ص: 31 ] بالمنجنيق فأصاب الحجر أحدهم فقتله فالصحيح أن ما قابل فعل المقتول ساقط ويجب ثلثا ديته على عاقلة الآخرين ، هذا مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي واختيار صاحب المغني والقاضي
nindex.php?page=showalam&ids=14953أبي يعلى في المجرد ، وهو الذي قضى به
nindex.php?page=showalam&ids=8علي عليه السلام في مسألة القارصة والواقصة ، قال
الشعبي : وذلك أن
ثلاث جوار اجتمعن فركبت إحداهن على عنق الأخرى فقرصت الثالثة المركوبة فقمصت فسقطت الراكبة فوقصت أي كسرت عنقها فماتت ، فرفع ذلك إلى
nindex.php?page=showalam&ids=8علي عليه السلام ، فقضى بالدية أثلاثا على عواقلهن ، وألغى الثلث الذي قابل فعل الواقصة ; لأنها أعانت على قتل نفسها .
وإذا ثبت هذا فلو ماتوا بسقوط بعضهم فوق بعض كان الأول قد هلك بسبب مركب من أربعة أشياء : سقوطه ، وسقوط الثاني ، والثالث ، والرابع .
وسقوط الثلاثة فوقه من فعله وجنايته على نفسه ، فسقط ما يقابله وهو ثلاثة أرباع الدية ، وبقي الربع الآخر لم يتولد من فعله وإنما تولد من التزاحم فلم يهدر ; وأما الثاني فلأن هلاكه كان من ثلاثة أشياء : جذب من قبله له ، وجذبه هو لثالث ، ورابع ; فسقط ما يقابل جذبه وهو ثلثا الدية ، واعتبر ما لا صنع له فيه ، وهو الثلث الباقي ; وأما الثالث فحصل تلفه بشيئين : جذب من قبله له ، وجذبه هو للرابع ، فسقط فعله دون السبب الآخر ; فكان لورثته النصف ، وأما الرابع فليس منه فعل ألبتة ، وإنما هو مجذوب محض ، فكان لورثته كمال الدية ، وقضى بها على عواقل الذين حضروا البئر لتدافعهم وتزاحمهم .
فإن قيل : على هذا سؤالان : أحدهما أنكم لم توجبوا على عاقلة الجاذب شيئا مع أنه مباشر ، وأوجبتم على عاقلة من حضر البئر ولم يباشر ، وهذا خلاف القياس ، الثاني : أن هذا هب أنه يتأتى لكم فيما إذا ماتوا بسقوط بعضهم على بعض ، فكيف يتأتى لكم في مسألة الزبية ، وإنما ماتوا بقتل الأسد ؟ فهو كما لو تجاذبوا فغرقوا في البئر .
قيل : هذان سؤالان قويان ; وجواب الأول أن الجاذب لم يباشر الإهلاك وإنما تسبب إليه ، والحاضرون تسببوا بالتزاحم ، وكان تسببهم أقوى من تسبب الجاذب ; لأنه ألجئ إلى الجذب ; فهو كما لو
ألقى إنسان إنسانا على آخر فنفضه عنه لئلا يقتله فمات فالقاتل هو الملقي .
وأما السؤال الثاني فجوابه أن المباشر للتلف كالأسد والماء والنار ، لما لم يمكن الإحالة عليه ألغى فعله ، وصار الحكم للسبب ; ففي مسألة الزبية ليس للرابع فعل ألبتة ، وإنما هو مفعول به محض .
فله كمال الدية ، والثالث فاعل ومفعول به فألغى ما يقابل فعله واعتبر فعل الغير به ، فكان قسطه نصف الدية ، والثاني كذلك إلا أنه جاذب لواحد والمجذوب جاذب لآخر ; فكان الذي حصل عليه من تأثير الغير فيه ثلث السبب لجذب
[ ص: 32 ] الأول له فله ثلث الدية ، وأما الأول فثلاثة أرباع السبب من فعله ، وهو سقوط الثلاثة الذين سقطوا بجذبه مباشرة وتسببا ، وربعه من وقوعه بتزاحم الحاضرين ، فكان حظه ربع الدية ، وهذا أولى من تحميل عاقلة القتيل ما يقابل فعله ، ويكون لورثته ، وهذا هو خلاف القياس ; لأن الدية شرعت مواساة وجبرا ، فإذا كان الرجل هو القاتل لنفسه أو مشاركا في قتله لم يكن فعله بنفسه مضمونا كما لو قطع طرف نفسه أو أتلف مال نفسه ; فقضاء
nindex.php?page=showalam&ids=8علي عليه السلام أقرب إلى القياس من هذا بكثير ، وهو أولى أيضا من أن يحمل فعل المقتول على عواقل الآخرين كما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11851أبو الخطاب في مسألة المنجنيق أنه يلغي فعل المقتول في نفسه وتجب ديته بكمالها على عاقلة الآخرين نصفين ، وهذا أبعد عن القياس مما قبله ; إذ كيف تتحمل العاقلة والأجانب جناية الإنسان على نفسه ، ولو تحملتها العاقلة لكانت عاقلته أولى بتحملها ، وكلا القولين يخالف القياس ; فالصواب ما قضى به أمير المؤمنين رضي الله عنه .
وهو أيضا أحسن من تحميل دية الرابع لعاقلة الثالث ، وتحميل دية الثالث لعاقلة الثاني ، وتحميل دية الثاني لعاقلة الأول ، وإهدار دية الأول بالكلية ; فإن هذا القول وإن كان له حظ من القياس فإن الأول لم يجن عليه أحد ، وهو الجاني على الثاني فديته على عاقلته ، والثاني على الثالث ، والثالث على الرابع ، والرابع لم يجن على أحد فلا شيء عليه ; فهذا قد توهم أنه في ظاهر القياس أصح من قضاء أمير المؤمنين ولهذا ذهب إليه كثير من الفقهاء من أصحاب
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد وغيرهم ، إلا أن ما قضى به
nindex.php?page=showalam&ids=8علي أفقه ; فإن الحاضرين ألجئوا الواقفين بمزاحمتهم لهم فعواقلهم أولى بحمل الدية من عواقل الهالكين ، وأقرب إلى العدل من أن يجمع عليهم بين هلاك أوليائهم وحمل دياتهم ، فتتضاعف عليهم المصيبة ، ويكسروا من حيث ينبغي جبرهم ، ومحاسن الشريعة تأبى ذلك ، وقد جعل الله سبحانه لكل مصاب حظا من الجبر ، وهذا أصل شرع حمل العاقلة الدية جبرا للمصاب وإعانة له .
وأيضا فالثاني والثالث كما هما مجني عليهما فهما جانيان على أنفسهما وعلى من جذباه ، فحصل هلاكهم بفعل بعضهم ببعض ، فألغى ما قابل فعل كل واحد بنفسه ، واعتبر جناية الغير عليه .
وهو أيضا أحسن من تحميل دية الرابع لعواقل الثلاثة ، ودية الثالث لعاقلة الثاني والأول ، ودية الثاني لعاقلة الأول خاصة ، وإن كان له أيضا حظ من قياس تنزيلا لسبب السبب منزلة السبب ، وقد اشترك في هلاك الرابع الثلاثة الذين قبله ، وفي هلاك الثالث الاثنان ، وانفرد بهلاك الثاني الأول ، ولكن قول
nindex.php?page=showalam&ids=8علي عليه السلام أدق وأفقه .