صفحة جزء
فصل :

[ النوع الثاني من الرأي المحمود ] .

النوع الثاني من الرأي المحمود : الرأي الذي يفسر النصوص ، ويبين وجه الدلالة منها ، ويقررها ويوضح محاسنها ، ويسهل طريق الاستنباط منها ، كما قال عبدان : سمعت عبد الله بن المبارك يقول : ليكن الذي تعتمد عليه الأثر ، وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث ، وهذا هو الفهم الذي يختص الله سبحانه به من يشاء من عباده .

ومثال هذا رأي الصحابة رضي الله عنهم في العول في الفرائض عند تزاحم الفروض ، ورأيهم في مسألة زوج وأبوين وامرأة وأبوين أن للأم ثلث ما بقي بعد فرض الزوجين ، ورأيهم في توريث المبتوتة في مرض الموت ، ورأيهم في مسألة جر الولاء ، ورأيهم في المحرم يقع على أهله بفساد حجه ووجوب المضي فيه والقضاء والهدي من قابل ، ورأيهم في الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا لكل يوم مسكينا ، ورأيهم في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر تصلي المغرب والعشاء ، وإن طهرت قبل الغروب صلت الظهر والعصر ، ورأيهم في الكلالة ، وغير ذلك .

قال الإمام أحمد : ثنا يزيد بن هارون أنا عاصم الأحول عن الشعبي قال : سئل أبو بكر عن الكلالة ، فقال : إني سأقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، أراه ما خلا الوالد والولد .

فإن قيل : كيف يجتمع هذا مع ما صح عنه من قوله : " أي سماء تظلني ؟ وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله برأيي " ، وكيف يجامع هذا الحديث الذي تقدم { من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار } ؟ .

فالجواب أن الرأي نوعان :

أحدهما : رأي مجرد لا دليل عليه ، بل هو خرص وتخمين ، فهذا الذي أعاذ الله الصديق والصحابة منه .

والثاني : رأي مستند إلى استدلال واستنباط من النص وحده أو من نص آخر معه ، [ ص: 66 ] فهذا من ألطف فهم النصوص وأدقه ، ومنه رأيه في الكلالة أنها ما عدا الوالد والولد ، فإن الله سبحانه ذكر الكلالة في موضعين من القرآن ; ففي أحد الموضعين ورث معها الأخ والأخت من الأم ، ولا ريب أن هذه الكلالة ما عدا الوالد والولد ، والموضع الثاني ورث معها ولد الأبوين أو الأب النصف أو الثلثين ، فاختلف الناس في هذه الكلالة ، والصحيح فيها قول الصديق الذي لا قول سواه وهو الموافق للغة العرب كما قال :

ورثتم قناة المجد لا عن كلالة عن ابني مناف عبد شمس وهاشم

أي إنما ورثتموها عن الآباء والأجداد ، لا عن حواشي النسب ، وعلى هذا فلا يرث ولد الأب والأبوين لا مع أب ولا مع جد ، كما لم يرثوا مع الابن ولا ابنه ، وإنما ورثوا مع البنات ; لأنهم عصبة فلهم ما فضل عن الفروض .

التالي السابق


الخدمات العلمية