صفحة جزء
فلنرجع إلى الأمثلة التي ترك فيها المحكم للمتشابه ، فنقول :

[ الجهر بآمين ]

المثال السابع والخمسون : ترك السنة المحكمة الصحيحة في الجهر بآمين في الصلاة كقوله في الصحيحين : { إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه } ولولا جهره بالتأمين لما أمكن المأموم أن يؤمن معه ويوافقه في التأمين ، [ ص: 286 ] وأصرح من هذا حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن حجر بن عنبس عن وائل بن حجر قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال ولا الضالين قال آمين ، ورفع بها صوته } .

وفي لفظ : { وطول بها } رواه الترمذي وغيره ، وإسناده صحيح . وقد خالف شعبة سفيان في هذا الحديث فقال : { وخفض بها صوته } وحكم أئمة الحديث وحفاظه في هذا لسفيان فقال الترمذي : سمعت محمد بن إسماعيل يقول : حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل في هذا الباب أصح من حديث شعبة ، أخطأ شعبة في هذا الحديث في مواضع ، فقال : " عن حجر أبي العنبس " وإنما كنيته أبو السكن ، وزاد فيه علقمة بن وائل ، وإنما هو حجر بن عنبس عن وائل بن حجر ، ليس فيه علقمة ، وقال : { وخفض بها صوته } والصحيح أنه جهر بها .

قال الترمذي : وسألت أبا زرعة عن حديث سفيان وشعبة هذا ، فقال : حديث سفيان أصح من حديث شعبة ، وقد روى العلاء بن صالح عن سلمة بن كهيل نحو رواية سفيان ، وقال الدارقطني : كذا قال شعبة : { وأخفى بها صوته } ويقال : إنه وهم فيه ; لأن سفيان الثوري ومحمد بن سلمة بن كهيل وغيرهما رووه عن سلمة فقالوا : { ورفع صوته بآمين } وهو الصواب . وقال البيهقي : لا أعلم اختلافا بين أهل العلم بالحديث أن سفيان وشعبة إذا اختلفا فالقول قول سفيان ، وقال يحيى بن سعيد : ليس أحد أحب إلي من شعبة ، ولا يعدله عندي أحد ، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان ، وقال شعبة : سفيان أحفظ مني ; فهذا ترجيح لرواية سفيان ، وترجيح ثان : وهو متابعة العلاء بن صالح ومحمد بن سلمة بن كهيل له ، وترجيح ثالث : وهو أن أبا الوليد الطيالسي - وحسبك به رواه عن شعبة بوفاق الثوري في متنه ، فقد اختلف على شعبة كما ترى .

قال البيهقي : فيحتمل أن يكون تنبه لذلك فعاد إلى الصواب في متنه ، وترك ذكر ذلك علقمة في إسناده ، وترجيح رابع : وهو أن الروايتين لو تقاومتا لكانت رواية الرفع متضمنة لزيادة وكانت أولى بالقبول ، وترجيح خامس : وهو موافقتها وتفسيرها لحديث أبي هريرة : { وإذا أمن الإمام فأمنوا ، فإن الإمام يقول آمين والملائكة تقول : آمين ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له } . وترجيح سادس : وهو ما رواه الحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته بآمين } ولأبي داود بمعناه ، وزاد بيانا فقال : { قال آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول } وفي رواية عنه : { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال : آمين يرفع بها صوته ، ويأمر بذلك . }

وذكر البيهقي عن علي كرم الله وجهه قال : { سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : آمين إذا قرأ : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } } وعنه أيضا رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم : كان إذا قرأ ولا الضالين [ ص: 287 ] رفع صوته بآمين } وعند أبي داود عن { بلال أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : لا تسبقني بآمين } .

قال الربيع : سئل الشافعي عن الإمام : هل يرفع صوته بآمين ؟ قال : نعم ، ويرفع بها من خلفه أصواتهم ، فقلت : وما الحجة ؟ فقال : أنبأنا مالك ، وذكر حديث أبي هريرة المتفق على صحته ، ثم قال : ففي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إذا أمن الإمام فأمنوا } دلالة على أنه أمر الإمام أن يجهر بآمين ; لأن من خلفه لا يعرفون وقت تأمينه إلا بأن يسمع تأمينه ، ثم بينه ابن شهاب فقال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : آمين } ، فقلت للشافعي : فإنا نكره للإمام أن يرفع صوته بآمين ، فقال : هذا خلاف ما روى صاحبنا وصاحبكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يكن عندنا وعندهم علم إلا هذا الحديث الذي ذكرناه عن مالك فينبغي أن يستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بآمين ، وأنه أمر الإمام أن يجهر بها ، فكيف ولم يزل أهل العلم عليه ؟ وروى وائل بن حجر { أن النبي صلى الله عليه وسلم : كان يقول آمين يرفع بها صوته } ويحكي مده إياها .

وكان أبو هريرة يقول للإمام : لا تسبقني بآمين ، وكان يؤذن له ، أنبأنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن عطاء : كنت أسمع الأئمة ابن الزبير ومن بعده يقولون : آمين ومن خلفهم آمين ، حتى إن للمسجد للجة .

وقوله : { كان أبو هريرة يقول للإمام لا تسبقني بآمين } يريد ما ذكره البيهقي بإسناده عن أبي رافع أن أبا هريرة كان يؤذن لمروان بن الحكم ، فاشترط عليه أن لا يسبقه بالضالين ، حتى يعلم أنه قد وصل إلى الصف ، فكان مروان إذا قال : { ولا الضالين } قال أبو هريرة : ( آمين ) يمد بها صوته ، وقال : إذا وافق تأمين أهل الأرض تأمين أهل السماء غفر لهم . وقال عطاء : أدركت مائتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد إذا قال الإمام : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } سمعت لهم رجة بآمين . فرد هذا كله بقوله تعالى : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } والذي أنزلت عليه هذه الآية هو الذي رفع صوته بالتأمين ، والذين أمروا بها رفعوا به أصواتهم ، ولا معارضة بين الآية والسنة بوجه ما .

التالي السابق


الخدمات العلمية