صفحة جزء
فصل

وجماع الأمر أنه إذا باعه ربويا بثمن وهو يريد أن يشتري منه بثمنه من جنسه ، فإما أن يواطئه على الشراء منه لفظا ، أو يكون العرف بينهما قد جرى بذلك ، أو لا يكون ، فإن كان الأول فهو باطل كما تقدم تقريره ; فإن هذا لم يقصد ملك الثمن ولا قصد هذا تمليكه ، وإنما قصد تمليك المثمن بالمثمن ، وجعلا تسمية الثمن تلبيسا وخداعا ووسيلة إلى الربا ; فهو في هذا العقد بمنزلة التيس الملعون في عقد التحليل ، وإن لم تجر بينهما مواطأة لكن قد علم المشتري أن البائع يريد أن يشتري منه ربويا بربوي فكذلك ; لأن علمه بذلك ضرب من المواطأة ، وهو يمنع قصد الثمن الذي يخرجان به عن قصد الربا ، وإن قصد البائع الشراء منه بعد البيع ولم يعلم المشتري ; فقد قال الإمام أحمد : هاهنا لو باع من رجل دنانير بدراهم لم يجز أن يشتري بالدراهم منه ذهبا إلا أن يمضي ويبتاع بالورق من غيره ذهبا فلا يستقيم ، فيجوز أن يرجع إلى الذي ابتاع منه الدنانير فيشتري منه ذهبا ، وكذلك كره مالك أن تصرف دراهمك من رجل بدنانير ، ثم تبتاع منه بتلك الدنانير دراهم غير دراهمك في الوقت أو بعد يوم أو يومين .

قال ابن القاسم : فإن طال الزمان وصح أمرهما فلا بأس به ; فوجه ما منعه [ ص: 181 ] الإمام أحمد رضي الله عنه أنه متى قصد المشتري منه تلك الدنانير لم يقصد تملك الثمن ، ولهذا لا يحتاط في النقد والوزن ، ولهذا يقول : إنه متى بدا له بعد القبض والمفارقة أن يشتري منه - بأن يطلب من غيره فلا يجد - لم يكن في العقد الأول خلل ، والمتقدمون من أصحابه حملوا هذا المنع منه على التحريم .

وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما : إذا لم يكن شرط ومواطأة بينهما لم يحرم ، وقد أومأ إليه الإمام أحمد في رواية حرب ; فإنه قال ; قلت لأحمد : أشتري من رجل ذهبا ثم أبتاعه منه ، قال : بيعه من غيره أحب إلي ، وذكر ابن عقيل أن أحمد لم يكرهه في رواية أخرى .

وكره ابن سيرين للرجل أن يبتاع من الرجل الدراهم بالدنانير ثم يشتري منه بالدراهم دنانير ، وهذه المسألة في ربا الفضل كمسائل العينة في ربا النساء ، ولهذا عدها من الربا الفقهاء السبعة وأكثر العلماء ، وهو قول أهل المدينة كمالك وأصحابه ، وأهل الحديث كأحمد وأصحابه ، وهو مأثور عن ابن عمر ; ففي هذه المسألة قد عاد الثمن إلى المشتري ، وحصلا على ربا الفضل أو النساء ، وفي العينة قد عاد المبيع إلى البائع وأفضى إلى ربا الفضل والنساء جميعا ، ثم إن كان في الموضعين لم يقصد الثمن ولا المبيع ، وإنما جعل وصلة إلى الربا ; فهذا الذي لا ريب في تحريمه ، والعقد الأول هاهنا باطل بلا توقف عند من يبطل الحيل .

وقد صرح به القاضي في مسألة العينة في غير موضع ، وحكى أبو الخطاب في صحته وجهين :

قال شيخنا : والأول هو الصواب ، وإنما تردد من تردد من الأصحاب في العقد الأول في مسألة العينة ; لأن هذه المسألة إنما ينسب الخلاف فيها في العقد الثاني بناء على أن الأول صحيح ، وعلى هذا التقدير فليست من مسائل الحيل ، وإنما هي من مسائل الذرائع ، ولها مأخذ آخر يقتضي التحريم عند أبي حنيفة وأصحابه ; فإنهم لا يحرمون الحيل ويحرمون مسألة العينة ، وهو أن الثمن إذا لم يستوف لم يتم العقد الأول ; فيصير الثاني مبنيا عليه ، وهذا تعليل خارج عن قاعدة الحيل والذرائع ، فصار للمسألة ثلاثة مآخذ ، فلما لم يتمحص تحريمها على قاعدة الحيل توقف في العقد الأول من توقف .

قال شيخنا : والتحقيق أنها إذا كانت من الحيل أعطيت حكم الحيل ، وإلا اعتبر فيها المأخذان الآخران ، هذا إذا لم يقصد العقد الأول ، فإن قصد حقيقته فهو صحيح ، لكن ما دام الثمن في ذمة المشتري لم يجز أن يشتري منه المبيع بأقل منه من جنسه ، ولا يجوز أن يبتاع منه الثمن ربويا لا يباع بالأول نساء ; لأن أحكام العقد الأول لا تتم إلا بالتقابض ; فإذا لم يحصل كان ذريعة إلى الربا ، وإن تقابضا وكان العقد مقصودا فله أن يشتري منه كما يشتري من غيره ، وإذا كان الطريق إلى الحلال هي العقود المقصودة المشروعة التي لا خداع فيها ولا تحريم [ ص: 182 ] لم يصح أن تلحق بها صورة عقد لم تقصد حقيقته ، وإنما قصد التوصل به إلى استحلال ما حرمه الله ، والله الموفق .

وإنما أطلنا الكلام على هذه الحجة لأنها عمدة أرباب الحيل من السنة ، كما [ أن ] عمدتهم من الكتاب : {وخذ بيدك ضغثا } .

التالي السابق


الخدمات العلمية