[
الرد على المسألة السريجية قال الآخرون لقد أطلتم الخطب في هذه المسألة ، ولم تأتوا بطائل ، وقلتم ولكن تركتم مقالا لقائل ، وتأبى قواعد اللغة والشرع والعقل لهذه المسائل تصحيحا ، والميزان العادل لها عند الوزن ترجيحا ، وهيهات أن تكون شريعتنا في هذه المسألة مشابهة لشريعة
[ ص: 203 ] أهل الكتاب ; إذ يستحيل وقوع الطلاق وتسد دونه الأبواب .
وهل هذا إلا تغيير لما علم بالضرورة من الشريعة .
وإلزام لها بالأقوال الشنيعة ؟ وهذا أشنع من سد باب النكاح بتصحيح تعليق الطلاق لكل من تزوجها في مدة عمره ; فإنه وإن كان نظير سد باب الطلاق ، لكن قد ذهب إليه بعض
السلف ، وأما هذه المسألة فمما حدث في الإسلام بعد انقراض الأعصار المفضلة .
ونحن نبين مناقضة هذه المسألة للشرع واللغة والعقل ، ثم نجيب عن شبهكم شبهة شبهة .
أما مناقضتها للشرع فإن الله تعالى شرع للأزواج - إذا أرادوا استبدال زوج مكان زوج والتخلص من المرأة - الطلاق ، وجعله بحكمته ثلاثا توسعة على الزوج ; إذ لعله يبدو له ويندم فيراجعها ، وهذا من تمام حكمته ورأفته ورحمته بهذه الأمة ، ولم يجعل أنكحتهم كأنكحة
النصارى تكون المرأة غلا في عنق الرجل إلى الموت ، ولا يخفى ما بين الشريعتين من التفاوت ، وأن هذه المسألة منافية لإحداهما منافاة ظاهرة ، ومشتقة من الأخرى اشتقاقا ظاهرا ، ويكفي هذا الوجه وحده في إبطالها .
وأما مناقضتها للغة فإنها تضمنت كلاما ينقض بعضه بعضا ، ومضمونه إذا وجد الشيء لم يوجد ، وإذا وجد الشيء اليوم فهو موجود قبل اليوم ، وإذا فعلت الشيء اليوم فقد وقع مني قبل اليوم ، ونحو هذا من الكلام المتناقض في نفسه الذي هو إلى المحال أقرب منه إلى الصحيح من المقال .
وأما مناقضتها لقضايا العقول فلأن الشرط يستحيل أن يتأخر وجوده عن وجود المشروط ، ويتقدم المشروط عليه في الوجود ، هذا مما لا يغفل عنه أحد من العقلاء ; فإن رتبة الشرط التقدم أو المقارنة ، والفقهاء وسائر العقلاء معهم مجمعون على ذلك ; فلو صح تعليق المشروط بشرط متأخر بعده لكان ذلك إخراجا له عن كونه شرطا أو جزء شرط أو علة أو سببا ; فإن الحكم لا يسبق شرطه ولا سببه ولا علته ; إذ في ذلك إخراج الشروط والأسباب والعلل عن حقائقها وأحكامها ، ولو جاز تقديم الحكم على شرطه لجاز تقديم وقوع الطلاق على إيقاعه ; فإن الإيقاع سبب ، والأسباب تتقدم مسبباتها ، كما أن الشروط رتبتها التقدم ; فإذا جاز إخراج هذا عن رتبته جاز إخراج الآخر عن رتبته ، فجوزوا حينئذ تقدم الطلاق على التطليق والعتق على الإعتاق والملك على البيع ، وحل المنكوحة على
[ ص: 204 ] عقد النكاح .
وهل هذا في الشرعيات إلا بمنزلة تقدم الانكسار على الكسر والسيل على المطر والشبع على الأكل والولد على الوطء وأمثال ذلك ؟ ولا سيما على أصل من يجعل هذه العلل والأسباب علامات محضة ، ولا تأثير لها ، بل هي معرفات ، والمعرف يجوز تأخيره عن المعرف .
وبهذا يخرج الجواب عن قولكم : إن الشروط الشرعية معروفات وأمارات وعلامات ، والعلامة يجوز تأخرها ; فإن هذا وهم وإيهام من وجهين : أحدهما : أن الفقهاء مجمعون على أن الشرائط الشرعية لا يجوز تأخرها عن المشروط ، ولو تأخرت لم تكن شروطا .
[ بحث في الشروط وأنواعها وحكم كل نوع منها ]
الثاني : أن هذا شرط لغوي كقوله : " إن كلمت زيدا فأنت طالق " ونحو ذلك : " وإن خرجت بغير إذني فأنت طالق " ونحو ذلك ، والشروط اللغوية أسباب وعلل مقتضية لأحكامها اقتضاء المسببات لأسبابها ، ألا ترى أن قوله : " إن دخلت الدار فأنت طالق " سبب ومسبب ومؤثر وأثر ، ولهذا يقع جوابا عن العلة ، فإذا قال : " لم أطلقها ؟ " قال : لوجود الشرط الذي علقت عليه الطلاق ، فلو لا أن وجوده مؤثر في الإيقاع لما صح هذا الجواب ، ولهذا يصح أن يخرجه بصيغة القسم فيقول : الطلاق يلزمني لا تدخلين الدار ; فيجعل إلزامه للطلاق في المستقبل مسببا عن دخولها الدار بالقسم والشرط ، وقد غلط في هذا طائفة من الناس حيث
قسموا الشرط إلى شرعي ولغوي وعقلي ، ثم حكموا عليه بحكم شامل فقالوا : الشرط يجب تقديمه على المشروط ، ولا يلزم من وجوده وجود المشروط ، ويلزم من انتفائه انتفاء المشروط كالطهارة للصلاة والحياة للعلم .
ثم أوردوا على أنفسهم الشرط اللغوي ; فإنه يلزم من وجوده وجود المشروط ، ولا يلزم من انتفائه انتفاؤه ; لجواز وقوعه بسبب آخر ، ولم يجيبوا عن هذا الإيراد بطائل ، والتحقيق أن الشروط اللغوية أسباب عقلية ، والسبب إذا تم لزم من وجوده وجود مسببه ، وإذا انتفى لم يلزم نفي المسبب مطلقا ; لجواز خلف سبب آخر ، بل يلزم انتفاء السبب المعين عن هذا المسبب .
وأما قولكم : " إنه
صدر من هذا الزوج طلاقان منجز ومعلق ، والمحل قابل لهما " فجوابه بالمنع ، فإن المحل ليس بقابل للمعلق ; فإنه يتضمن المحال ، والمحل لا يقبل المحال ، نعم هو قابل للمنجز وحده ، فلا مانع من وقوعه ، وكيف تصح دعواكم أن المحل
[ ص: 205 ] قابل للمعلق ، ومنازعكم إنما نازعكم فيه ، وقال : ليس المحل بقابل للمعلق ، فجعلتم نفس الدعوى مقدمة في الدليل .
وقولكم : " إن
الزوج ممن يملك التنجيز والتعليق " جوابه أنه إنما يملك التعليق الممكن ، فأما التعليق المستحيل فلم يملكه شرعا ولا عرفا ولا عادة ، وقولكم : " لا مزية لأحدهما على الآخر " باطل ، بل المزية كل المزية لأحدهما على الآخر ; فإن المنجز له مزية الإمكان في نفسه ، والمعلق له مزية الاستحالة والامتناع ، فلم يتمانعا ولم يتساقطا ، فلم يمنع من وقوع المنجز مانع ، وقولكم " إنه نظير ما لو
تزوج أختين في عقد " جوابه أنه تنظير باطل ; فإنه ليس نكاح إحداهما شرطا في نكاح الأخرى ، بخلاف مسألتنا ، فإن المنجز شرط في وقوع المعلق ، وذلك عين المحال .
وقولكم : " إنه
لا مزية لأحد الطلاقين على الآخر " باطل ، بل للمنجز مزية من عدة وجوه ; أحدها : قوة التنجيز على التعليق ، الثاني : أن التنجيز لا خلاف في وقوع الطلاق به ، وأما التعليق ففيه نزاع مشهور بين الفقهاء .
والموقعون لم يقيموا على المانعين حجة توجب المصير إليها مع تناقضهم فيما يقبل التعليق وما لا يقبله ، فمنازعوهم يقولون : الطلاق لا يقبل التعليق كما قلتم أنتم في الإسقاط والوقف والنكاح والبيع ، ولم يفرق هؤلاء بفرق صحيح ، وليس الغرض ذكر تناقضهم ، بل الغرض أن للمنجز مزية على المعلق ، الثالث : أن المشروط هو المقصود لذاته والشرط تابع ووسيلة ، الرابع : أن المنجز لا مانع من وقوعه لأهلية الفاعل وقبول المحل ، والتعليق المحال لا يصلح أن يكون مانعا من اقتضاء السبب الصحيح أثره .
الخامس : أن صحة التعليق فرع على ملك التنجيز ، فإذا انتفى ملكه للمنجز في هذه المسألة انتفى صحة التعليق ، فصحة التعليق تمنع من صحته ، وهذه معارضة صحيحة في أصل المسألة فتأملها .
السادس : أنه لو قال في مرضه : " إذا أعتقت سالما فغانم حر ثم أعتق سالما ولا يخرجان من الثلث قدم عتق المنجز على المعلق لقوته .
يوضحه الوجه السابع : أنه لو قال لغيره : " ادخل الدار فإذا دخلت أخرجتك " وهو نظيره في القوة ; فإذا دخل لم يمكنه إخراجه ، وهذا المثال وزان مسألتنا ، فإن المعلق هو الإخراج والمنجز هو الدخول .
الثامن : أن المنجز في حيز الإمكان والمعلق قد قارنه ما جعله مستحيلا .
التاسع : أن وقوع المنجز يتوقف على أمر واحد وهو التكلم باللفظ ، ووجود الشرط ، ما توقف على شيء واحد أقرب وجودا مما توقف على أمرين .
العاشر : أن وقوع المنجز موافق لتصرف الشارع وملك المالك ، ووقوع المعلق بخلافه ; لأن الزوج لم يملكه
[ ص: 206 ] الشارع ذلك ، فهذه عشرة أوجه تدل على مزية المنجز وتبطل قولكم إنه لا مزية له ، والله أعلم .