فصل :
[ إبطال
حيلة لإسقاط الاستبراء ]
ومن الحيل المحرمة الباطلة أن
يشتري جارية ويريد وطأها بملك اليمين في الحال من غير استبراء فله عدة حيل ، منها : أن يزوجه إياها البائع قبل أن يبيعها منه ، فتصير زوجته ، ثم يبيعه إياها فينفسخ النكاح ، ولا يجب عليه استبراء ; لأنه ملك زوجته ، وقد كان
[ ص: 252 ] وطؤها حلالا له بعقد النكاح ; فصار حلالا بملك اليمين .
ومنها : أن يزوجها غيره ، ثم يبيعها من الرجل الذي يريد شراءها ، فيملكها مزوجة وفرجها عليه حرام ; فيؤمر الزوج بطلاقها ، فإذا فعل حلت للمشتري .
ومنها : أن مشتريها لا يقبضها حتى يزوجها من عبده أو غيره ، ثم يقبضها بعد التزويج ، فإذا قبضها طلقها الزوج ، فيطؤها سيده بلا استبراء .
قالوا : فإن خاف المشتري أن لا يطلقها الزوج استوثق بأن يجعل الزوج أمرها بيد السيد ، فإذا فعل طلقها هو ثم وطئها بلا استبراء .
ولا يخفى نسبة هذه الحيل إلى الشرع ، ومحلها منه ، وتضمنها أن بائعها يطؤها بكرة ويطؤها المشتري عشية ، وأن هذا مناقض لما قصده الشارع من الاستبراء ، ومبطل لفائدة الاستبراء بالكلية .
ثم إن هذه الحيل كما هي محرمة فهي باطلة قطعا ; فإن السيد لا يحل له أن يزوج موطوءته حتى يستبرئها ، وإلا فكيف يزوجها لمن يطؤها ورحمها مشغول بمائه ؟ وكذلك إن أراد بيعها وجب عليه استبراؤها على أصح القولين ، صيانة لمائه ، ولا سيما إن لم يأمن من وطء المشتري لها بلا استبراء ، فهاهنا يتعين عليه الاستبراء قطعا ، فإذا أراد زوجها حيلة على إسقاط حكم الله وتعطيل أمره كان نكاحا باطلا لإسقاط ما أوجبه الله من الاستبراء ، وإذا طلقها الزوج بناء على صحة هذا النكاح الذي هو مكر وخداع واتخاذ لآيات الله هزوا لم يحل للسيد أن يطأها بدون الاستبراء ; فإن الاستبراء وجب عليه بحكم الملك المتجدد ، والنكاح العارض حال بينه وبينه ، لأنه لم يكن يحل له وطؤها ، فإذا زال المانع عمل المقتضي عمله ، وزوال المانع لا يزيل اقتضاء المقتضي مع قيام سبب الاقتضاء منه .
وأيضا فلا يجوز تعطيل الوصف عن موجبه ومقتضاه من غير فوات شرط أو قيام مانع .
وبالجملة فالمفسدة التي منع الشارع المشتري لأجلها من الوطء بدون الاستبراء لم تزل بالتحيل والمكر ، بل انضم إليها مفاسد المكر والخداع والتحيل .
فيا لله العجب من شيء حرم لمفسدة فإذا انضم إليه مفسدة أخرى هي أكبر من مفسدته بكثير صار حلالا ، فهو بمنزلة لحم الخنزير إذا ذبح كان حراما ، فإن مات حتف أنفه أو خنق حتى يموت صار حلالا ; لأنه لم يذبح .
قال الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد : هو حرام من وجهين ، وهكذا هذه المحرمات إذا احتيل عليها صارت حراما من وجهين وتأكد تحريمها .
والذي يقضي منه العجب أنهم يجمعون بين سقوط الاستبراء بهذه الحيل وبين
[ ص: 253 ] وجوب استبراء الصغيرة التي لم توطأ ولا يوطأ مثلها ، وبين استبراء البكر التي لم يقرعها .
فحل ، واستبراء العجوز الهرمة التي قد أيست من الحبل والولادة ، واستبراء الأمة التي يقطع ببراءة رحمها ، ثم يسقطون مع العلم بأن رحمها مشغول ، فأوجبتموه حيث لم يوجبه الشارع ، وأسقطتموه حيث أوجبه .
قالوا : وليس هذا بعجيب من تناقضكم ، بل وأعجب منه إنكار كون القرعة طريقا لإثبات الحكم مع ورود السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه بها ، وإثبات حل الوطء بشهادة شاهدي زور يعلم الزوج الواطئ أنهما شهدا بالزور على طلاقها حتى يجوز لأحد الشاهدين أن يتزوجها فيثبت الحل بشهادتهما .
وأعجب من ذلك أنه لو كان له أمة هي سرية يطؤها كل وقت لم تكن فراشا له ، ولو ولدت [ ولدا ] لم يلحقه الولد ، ولو تزوج امرأة ثم قال بحضرة الحاكم والشهود في مجلس العقد " هي طالق ثلاثا " وكانت بأقصى المشرق وهو بأقصى المغرب صارت فراشا بالعقد ; فلو أتت بعد ذلك بولد لأكثر من ستة أشهر لحقه نسبه .
وأعجب من ذلك قولكم : لو منع الذمي دينارا واحدا ول .
" لا أؤديه " انتقض عهده وحل ماله ودمه ، ولو سب الله ورسوله وكتابه على رءوسنا أقبح سب وحرق أفضل المساجد على الإطلاق واستهان بالمصحف بين أيدينا أعظم استهانة وبذل ذلك الدينار فعهده باق ودمه معصوم .
ومن العجيب تجويز قراءة القرآن بالفارسية ، ومنع رواية الحديث بالمعنى ومن العجب إخراج الأعمال عن مسمى الإيمان وأنه مجرد التصديق ، والناس فيه سواء ، وتكفير من يقول مسيجد أو فقيه ، أو يصلي بلا وضوء ، أو يلتذ بآلات الملاهي ، ونحو ذلك .
ومن العجب إسقاط الحد عمن استأجر امرأة للزنا أو لكنس بيته فزنى بها ، وإيجابه على من وجد امرأة أجنبية على فراشه في الظلمة فجامعها يظنها امرأته .
ومن العجب التشديد في المياه حتى تنجس القناطير المقنطرة منها بقطرة بول أو قطرة دم ، وتجويز الصلاة في ثوب ربعه مضمخ بالنجاسة ، فإن كانت مغلظة فبقدر راحة الكف .
[ ص: 254 ] ومن العجب أنه لو شهد عليه أربعة بالزنا فكذب الشهود حد ، وإن صدقهم سقط عنه الحد .
ومن العجب أنه لا يصح استئجار دار لتتخذ مسجدا يعبد الله فيه ، ويصح استئجارها [ كي ] تجعل كنيسة يعبد فيها الصليب أو بيت نار تعبد فيها النار .
ومن العجب أنه لو ضحك في صلاة فقهقه بطل وضوءه ، ولو غنى في صلاته أو قذف المحصنات أو شهد الزور ونحو ذلك فوضوءه بحاله .
ومن العجب أنه
لو وقع في البئر نجاسة نزح منها أدلاء معدودة ، فإذا حصل الدلو في البئر تنجس وغرف الماء نجسا ، وما أصاب حيطان البئر من ذلك الماء نجسها ، وكذلك ما بعده من الدلاء إلى أن تنتهي النوبة إلى الدلو الأخير فإنه ينزل نجسا ثم يصعد طاهرا فيقشقش النجاسة كلها من قعر البئر إلى رأسه .
قال بعض المتكلمين : ما رأيت أكرم من هذا الدلو ولا أعقل .
ومن العجب أنه
لو حلف أنه لا يأكل فاكهة حنث بأكل الجوز واللوز والفستق ، ولو كان يابسا قد أتت عليه السنون ، ولا يحنث بأكل الرطب والعنب والرمان .
وأعجب من ذلك تعليل هذا بأن هذه الثلاثة من خيار الفاكهة وأعلى أنواعها ، فلا تدخل في الاسم المطلق .
ومن العجب أنه
لو حلف أن لا يشرب من النيل أو الفرات أو دجلة فشرب بكفه أو بكوز أو دلو من هذه الأنهار لم يحنث ، فإذا شرب بفيه مثل البهائم حنث .
ومن العجب أنه لو نام في المسجد وأغلقت عليه الأبواب ودعته الضرورة إلى الخلاء فطاق القبلة ومحراب المسجد أولى بذلك من مؤخر المسجد .
ومن العجب أمر هذه الحيل التي لا يزداد بها المنهي عنه إلا فسادا مضاعفا ، كيف تباح مع تلك المفسدة الزائدة بالمكر والخداع وتحرم بدونها ؟ وكيف تنقلب مفاسدها بالحيل صلاحا ، وتصير خمرتها خلا ، وخبثها طيبا ؟ قالوا : فهذا فصل في الإشارة إلى بيان فساد هذه الحيل على وجه التفصيل ، كما
[ ص: 255 ] تقدم الإشارة إلى فسادها وتحريمها على وجه الإجمال ، ولو تتبعناها حيلة حيلة لطال الكتاب ، ولكن هذه أمثلة يحتذى عليها ، والله الموفق للصواب