[ ص: 104 ] أنواع القياس ]
والأقيسة المستعملة في الاستدلال ثلاثة : قياس علة ، وقياس دلالة ، وقياس شبه ، وقد وردت كلها في القرآن .
[
قياس العلة ]
فأما قياس العلة فقد جاء في كتاب الله عز وجل في مواضع ، منها قوله تعالى : {
إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } فأخبر تعالى أن
عيسى نظير
آدم في التكوين بجامع ما يشتركان فيه من المعنى الذي تعلق به وجود سائر المخلوقات ، وهو مجيئها طوعا لمشيئته وتكوينه ، فكيف يستنكر وجود
عيسى من غير أب من يقر بوجود
آدم من غير أب ولا أم ؟ ووجود
حواء من غير أم ؟
فآدم وعيسى نظيران يجمعهما المعنى الذي يصح تعليق الإيجاد والخلق به ، ومنها قوله تعالى : {
قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } أي : قد كان من قبلكم أمم أمثالكم فانظروا إلى عواقبهم السيئة ، واعلموا أن سبب ذلك ما كان من تكذيبهم بآيات الله ورسله ، وهم الأصل وأنتم الفرع ، والعلة الجامعة التكذيب ، والحكم الهلاك .
ومنها قوله تعالى : {
ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين } فذكر سبحانه إهلاك من قبلنا من القرون ، وبين أن ذلك كان لمعنى القياس ، وهو ذنوبهم ، فهم الأصل ونحن الفرع ، والذنوب العلة الجامعة ، والحكم الهلاك ; فهذا محض قياس العلة ، وقد أكده سبحانه بضرب من الأولى ، وهو أن من قبلنا كانوا أقوى منا فلم تدفع عنهم قوتهم وشدتهم ما حل بهم ، ومنه قوله تعالى : {
كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون } .
وقد اختلف في محل هذا الكاف وما يتعلق به ، فقيل : هو رفع خبر مبتدأ محذوف ، أي أنتم كالذين من قبلكم ، وقيل : نصب بفعل محذوف ، تقديره فعلتم كفعل الذين من قبلكم ، والتشبيه على هذين القولين في أعمال الذين من قبل ، وقيل : إن التشبيه في
[ ص: 105 ] العذاب ، ثم قيل : العامل محذوف ، أي لعنهم وعذبهم كما لعن الذين من قبل ، وقيل : بل العامل ما تقدم ، أي وعد الله المنافقين كوعد الذين من قبلكم ، ولعنهم كلعنهم ، ولهم عذاب مقيم كالعذاب الذي لهم والمقصود أنه سبحانه ألحقهم بهم في الوعيد ، وسوى بينهم فيه كما تساووا في الأعمال ، وكونهم كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا فرق غير مؤثر ، فعلق الحكم بالوصف الجامع المؤثر ، وألغى الوصف الفارق ، ثم نبه على أن مشاركتهم في الأعمال اقتضت مشاركتهم في الجزاء فقال : {
فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا } فهذه هي العلة المؤثرة والوصف الجامع ، وقوله : {
أولئك حبطت أعمالهم } هو الحكم ، والذين من قبل هم الأصل ، والمخاطبون الفرع .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16360عبد الرزاق في تفسيره : أخبرنا
nindex.php?page=showalam&ids=17124معمر عن
الحسن في قوله : {
فاستمتعوا بخلاقهم } قال : بذنبهم ، ويروى عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا ، وقال آخرون : بنصيبهم من الدنيا .
وحقيقة الأمر أن الخلاق هو النصيب والحظ ، كأنه الذي خلق للإنسان وقدر له ، كما يقال قسمه الذي قسم له ، ونصيبه الذي نصب له أي أثبت ، وقطه الذي قط له أي قطع ومنه قوله تعالى : {
وما له في الآخرة من خلاق } وقول النبي صلى الله عليه وسلم : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=12586إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة } والآية تتناول ما ذكره السلف كله ، فإنه سبحانه قال : {
كانوا أشد منكم قوة } فبتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعملوا للدنيا والآخرة ، وكذلك الأموال والأولاد ، وتلك القوة والأموال والأولاد هي الخلاق ، فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم وأولادهم في الدنيا ، ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة من الخلاق الذي استمتعوا به ، ولو أرادوا بذلك الله والدار الآخرة لكان لهم خلاق في الآخرة ، فتمتعهم بها أخذ حظوظهم العاجلة ، وهذا حال من لم يعمل إلا لدنياه ، سواء كان عمله من جنس العبادات أو غيرها ، ثم ذكر سبحانه حال الفروع فقال : {
فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } فدل هذا على أن حكمهم حكمهم ، وأنه ينالهم ما نالهم ; لأن حكم النظير حكم نظيره .
ثم قال : {
وخضتم كالذي خاضوا } فقيل : الذي صفة لمصدر
[ ص: 106 ] محذوف ، أي كالخوض الذي خاضوا ، وقيل : لموصوف محذوف ، أي كخوض القوم الذي خاضوا ، وهو فاعل الخوض ، وقيل : الذي مصدرية كما أي كخوضهم ، وقيل : هي موضع الذين