[
مشاركة العامل للمالك ، وأنواعها ]
المثال التاسع والثمانون : تجوز المغارسة عندنا على شجر الجوز وغيره ، بأن
يدفع [ ص: 16 ] إليه أرضه ويقول : اغرسها من الأشجار كذا وكذا ، والغرس بيننا نصفان ، وهذا كما يجوز أن
يدفع إليه ماله يتجر فيه ، والربح بينهما نصفان ، وكما يدفع إليه أرضه يزرعها ، والزرع بينهما ، وكما
يدفع إليه شجرة يقوم عليه ، والثمر بينهما ، وكما يدفع إليه بقره أو غنمه أو إبله يقوم عليها ، والدر والنسل بينهما ، وكما يدفع إليه زيتونه يعصره ، والزيت بينهما ، وكما يدفع إليه دابته يعمل عليها ، والأجرة بينهما ، وكما يدفع إليه فرسه يغزو عليها ، وسهمها بينهما ، وكما يدفع إليه قناة يستنبط ماءها ، والماء بينهما ، ونظائر ذلك ; فكل ذلك شركة صحيحة قد دل على جوازها النص والقياس واتفاق الصحابة ومصالح الناس ، وليس فيها ما يوجب تحريمها من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا قياس ، ولا مصلحة ، ولا معنى صحيح يوجب فسادها .
والذين منعوا ذلك عذرهم أنهم ظنوا ذلك كله من باب الإجارة ، فالعوض مجهول فيفسد ، ثم منهم من أجاز المساقاة والمزارعة للنص الوارد فيها ، والمضاربة للإجماع دون ما عدا ذلك ، ومنهم من خص الجواز بالمضاربة ، ومنهم من جوز بعض أنواع المساقاة والمزارعة ، ومنهم من منع الجواز فيما إذا كان بعض الأصل يرجع إلى العامل كقفيز الطحان ، وجوزه فيما إذا رجعت إليه الثمرة مع بقاء الأصل كالدر والنسل .
والصواب جواز ذلك كله ، وهو مقتضى أصول الشريعة وقواعدها ; فإنه من باب المشاركة التي يكون العامل فيها شريك المالك هذا بماله ، وهذا بعمله ، وما رزق الله فهو بينهما ، وهذا عند طائفة من أصحابنا أولى ، بالجواز من الإجارة ، حتى قال
شيخ الإسلام : هذه المشاركات أحل من الإجارة ، قال : لأن المستأجر يدفع ماله ، وقد يحصل له مقصوده ، وقد لا يحصل ، فيفوز المؤجر بالمال والمستأجر على الخطر ، إذ قد يكمل الزرع .
وقد لا يكمل ، بخلاف المشاركة ; فإن الشريكين في الفوز وعدمه على السواء ، إن رزق الله الفائدة كانت بينهما ، وإن منعها استويا في الحرمان ، وهذا غاية العدل ; فلا تأتي الشريعة بحل الإجارة وتحريم هذه المشاركات .
وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم المضاربة على ما كانت عليه قبل الإسلام ، فضارب أصحابه في حياته وبعد موته ، وأجمعت عليها الأمة ، ودفع
خيبر إلى اليهود يقومون عليها ويعمرونها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع ، وهذا كأنه رأي عين ، ثم لم ينسخه ، ولم ينه عنه ، ولا امتنع منه خلفاؤه الراشدون ، وأصحابه بعده ، بل كانوا يفعلون ذلك بأراضيهم ، وأموالهم يدفعونها إلى من يقوم عليها بجزء مما يخرج منها ، وهم مشغولون بالجهاد وغيره .
ولم ينقل عن رجل واحد منهم المنع إلا فيما منع منه النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ما قال
nindex.php?page=showalam&ids=15124الليث بن سعد : إذا نظر ذو البصر بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز ، ولو لم تأت هذه النصوص والآثار ; فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ، والله ورسوله لم يحرم شيئا من ذلك .
[ ص: 17 ] وكثير من الفقهاء يمنعون ذلك فإذا بلي الرجل بمن يحتج في التحريم بأنه هكذا في الكتاب ، وهكذا قالوا ، ولا بد له من فعل ذلك ; إذ لا تقوم مصلحة الأمة إلا به ; فله أن يحتال على ذلك بكل حيلة تؤدي إليه ، فإنها حيل تؤدي إلى فعل ما أباحه الله ورسوله ، ولم يحرمه على الأمة ، وقد تقدم ذكر الحيلة على جواز المساقاة والمزارعة ، ونظيرها في الاحتيال على المغارسة أن يؤجره الأرض يغرس فيها ما شاء من الأشجار لمدة كذا وكذا سنة بخدمتها ، وغرس كذا وكذا من الأشجار فيها ; فإن اتفقا بعد ذلك أن يجعلا لكل منها غراسا معينا مقررا جاز ، وإن أحب أن يكون الجميع شائعا بينهما ; فالحيلة أن يقر كل منهما للآخر أن جميع ما في هذه الأرض من الغراس فهو بينهما نصفين ، أو غير ذلك ، والحيلة في جواز المشاركة على البقر والغنم بجزء من درها ونسلها أن يستأجره للقيام عليها كذا وكذا سنة للمدة التي يتفقان عليها بنصف الماشية أو ثلثها ، على حسب ما يجعل له من الدر والنسل ، ويقر له بأن هذه الماشية بينهما نصفين أو أثلاثا ، فيصير درها ونسلها بينهما على حسب ملكهما ، فإن خاف رب الماشية أن يدعي عليه العامل بملك نصفها حيث أقر له به فالحيلة أن يبيعه ذلك النصف بثمن في ذمته ، ثم يسترهنه على ذلك الثمن ، فإن ادعى الملك بعد هذا طالبه بالثمن ، فإن ادعى الإعسار اقتضاه من الرهن .
والحيلة في جواز قفيز الطحان أن يملكه جزءا من الحب أو الزيتون ، إما ربعه أو ثلثه أو نصفه ، فيصير شريكه فيه ، ثم يطحنه أو يعصره فيكون بينهما على حسب ملكيهما فيه ، فإن خاف أن يملكه ذلك فيملكه عليه ، ولا يحدث فيه عملا ; فالحيلة أن يبيعه إياه بثمن في ذمته ، فيصير شريكه فيه ، فإذا عمل فيه سلم إليه حصته أو أبرأه من الثمن ، فإن خاف الأجير أن يطالبه بالثمن ويتسلم الجميع ، ولا يعطيه أجرته ; فالحيلة في أمنه من ذلك أن يشهد عليه أن الأصل مشترك بينهما قبل العمل ، فإذا أحدث فيه العمل فهو على الشركة ، وهكذا الحيلة في جميع هذا الباب ، وهي حيلة جائزة ; فإنها لا تتضمن إسقاط حق ، ولا تحريم حلال ، ولا تحليل حرام .