[
من أدب المفتي أن يمهد للحكم المستغرب ] الفائدة السابعة :
( إذا كان الحكم مستغربا جدا مما لا تألفه النفوس وإنما ألفت خلافه فينبغي للمفتي أن يوطئ قبله ما يكون مؤذنا به ) كالدليل عليه والمقدمة بين يديه ، فتأمل ذكره سبحانه قصة
زكريا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر الشبيبة وبلوغه السن الذي لا يولد [ فيه ] لمثله في العادة ، فذكر قصته مقدمة بين يدي قصة
المسيح وولادته من غير أب ; فإن النفوس لما آنست بولد من بين شيخين كبيرين لا يولد لهما عادة سهل عليها التصديق بولادة ولد من غير أب ، وكذلك ذكر سبحانه قبل قصة
المسيح موافاة
مريم رزقها في غير وقته وغير إبانه .
وهذا الذي شجع نفس
زكريا وحركها لطلب الولد وإن كان في غير إبانه ، وتأمل قصة نسخ القبلة لما كانت شديدة على النفوس جدا كيف وطأ سبحانه قبلها عدة موطئات : منها : ذكر النسخ ، ومنها : أنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله ، ومنها : أنه على كل شيء قدير ، وأنه بكل شيء عليم ; فعموم قدرته وعلمه صالح لهذا الأمر الثاني كما كان صالحا للأول .
ومنها : تحذيرهم الاعتراض على رسوله كما اعترض من قبلهم على
موسى ، بل أمرهم بالتسليم والانقياد .
ومنها : تحذيرهم بالإصغاء إلى اليهود ، وأن لا تستخفهم شبههم ، فإنهم يودون أن يردوهم كفارا من بعد ما تبين لهم الحق .
ومنها : إخباره أن دخول الجنة ليس بالتهود ولا بالتنصر ، وإنما هو بإسلام الوجه والقصد والعمل والنية لله مع متابعة أمره .
ومنها : إخباره سبحانه عن سعته ، وأنه حيث ولى المصلي وجهه فثم وجهه تعالى ، فإنه واسع عليم ، فذكر الإحاطتين الذاتية والعلمية ، فلا يتوهمون أنهم في القبلة الأولى لم يكونوا مستقبلين وجهه تبارك وتعالى ولا في الثانية ، بل حيثما توجهوا فثم وجهه تعالى .
ومنها : أنه سبحانه وتعالى حذر نبيه صلى الله عليه وسلم عن اتباع أهواء الكفار من
أهل الكتاب وغيرهم ، بل أمر أن يتبع هو وأمته ما أوحي إليه فيستقبلونه بقلوبهم وحده .
ومنها : أنه ذكر عظمة
بيته الحرام ، وعظمة بانيه وملته ، وسفه من يرغب عنها ، وأمر باتباعها ، فنوه بالبيت وبانيه وملته ، وكل هذا توطئة بين يدي التحويل ، مع ما في ضمنه من المقاصد الجليلة والمطالب السنية .
[ ص: 126 ] ثم ذكر فضل هذه الأمة وأنهم الأمة الوسط العدل الخيار ، فاقتضى ذلك أن يكون نبيهم صلى الله عليه وسلم أوسط الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وخيارهم ، وكتابهم كذلك ، ودينهم كذلك ، وقبلتهم التي يستقبلونها كذلك ، فظهرت المناسبة شرعا وقدرا في أحكامه تعالى الأمرية والقدرية ، وظهرت حكمته الباهرة ، وتجلت للعقول الزكية المستنيرة بنور ربها تبارك وتعالى .
والمقصود أن المفتي جدير أن يذكر بين يدي الحكم الغريب الذي لم يؤلف مقدمات تؤنس به ، وتدل عليه ، وتكون توطئة بين يديه ، وبالله التوفيق .