[ من أدب المفتي أن يفتي بلفظ النصوص ] الفائدة التاسعة :
ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه ; فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام ، فهو حكم مضمون له الصواب ، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان ، وقول الفقيه المعين ليس كذلك ، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على منهاجهم يتحرون ذلك غاية التحري ، حتى خلفت من بعدهم خلوف رغبوا عن النصوص ، واشتقوا لهم ألفاظا غير ألفاظ النصوص ، فأوجب ذلك هجر النصوص ، ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به النصوص من الحكم والدليل وحسن البيان ، فتولد من هجران ألفاظ النصوص والإقبال على الحادثة وتعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا الله .
فألفاظ النصوص عصمة وحجة بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب ، ولما كانت هي عصمة عهدة الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون كانت علومهم أصح من علوم من بعدهم ، وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم ، ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك ، وهلم جرا ، ولما استحكم هجران النصوص عند أكثر أهل الأهواء والبدع كانت علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض .
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئلوا عن مسألة يقولون : قال الله كذا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ، أو فعل [ رسول ] الله كذا ، ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلا قط ، فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور ، فلما طال العهد وبعد الناس من نور النبوة صار هذا عيبا عند المتأخرين أن يذكروا في أصول دينهم وفروعه قال الله ، وقال رسول الله .
أما أصول دينهم فصرحوا في كتبهم أن قول الله ورسوله لا يفيد اليقين في مسائل أصول الدين ، وإنما يحتج بكلام الله ورسوله فيها
الحشوية والمجسمة والمشبهة ، وأما فروعهم فقنعوا بتقليد من اختصر لهم بعض المختصرات التي لا يذكر فيها نص عن الله ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن الإمام الذي زعموا أنهم قلدوه دينهم ، بل عمدتهم فيما يفتون ويقضون به وينقلون به الحقوق ويبيحون به الفروج والدماء والأموال على قول ذلك المصنف ، وأجلهم عند نفسه وزعيمهم عند بني جنسه من يستحضر لفظ الكتاب ، ويقول : هكذا قال ، وهذا لفظه ; فالحلال ما أحله ذلك الكتاب ، والحرام ما حرمه ، والواجب ما أوجبه ، والباطل ما أبطله ، والصحيح ما صححه .
هذا ، وأنى لنا بهؤلاء في مثل هذه الأزمان ، فقد دفعنا إلى أمر تضج منه الحقوق إلى الله ضجيجا ، وتعج منه الفروج والأموال
[ ص: 131 ] والدماء إلى ربها عجيجا ، تبدل فيه الأحكام ، ويقلب فيه الحلال والحرام ، ويجعل المعروف فيه أعلى مراتب المنكرات ، والذي لم يشرعه الله ورسوله من أفضل القربات ، الحق فيه غريب ، وأغرب منه من يعرفه ، وأغرب منهما من يدعو إليه ، وينصح به نفسه والناس ، قد فلق بهم فالق الإصباح صبحه عن غياهب الظلمات ، وأبان طريقه المستقيم من بين تلك الطرق الجائرات ، وأراه بعين قلبه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع ما عليه أكثر الخلق من البدع المضلات ، رفع له علم الهداية فشمر إليه ، ووضح له الصراط المستقيم فقام ، واستقام عليه ، وطوبى له من وحيد على كثرة السكان ، غريب على كثرة الجيران ، بين أقوام رؤيتهم قذى العيون ، وشجى الحلوق ، وكرب النفوس ، وحمى الأرواح وغم الصدور ، ومرض القلوب .
وإن أنصفتهم لم تقبل طبيعتهم الإنصاف ، وإن طلبته منهم فأين الثريا من يد الملتمس ، قد انتكست قلوبهم ، وعمي عليهم مطلوبهم ، رضوا بالأماني ، وابتلوا بالحظوظ ، وحصلوا على الحرمان ، وخاضوا بحار العلم لكن بالدعاوى الباطلة وشقاشق الهذيان ، ولا والله ما ابتلت من وشله أقدامهم ، ولا زكت به عقولهم وأحلامهم ، ولا ابيضت به لياليهم وأشرقت بنوره أيامهم ، ولا ضحكت بالهدى والحق منه وجوه الدفاتر إذ بلت بمداده أقلامهم ، أنفقوا في غير شيء نفائس الأنفاس ، وأتعبوا أنفسهم وحيروا من خلفهم من الناس ، ضيعوا الأصول فحرموا الوصول ، وأعرضوا عن الرسالة ، فوقعوا في مهامه الحيرة وبيداء الضلالة .
والمقصود أن العصمة مضمونة في ألفاظ النصوص ومعانيها في أتم بيان وأحسن تفسير ، ومن رام إدراك الهدى ، ودين الحق من غير مشكاتها فهو عليه عسير غير يسير .