فصل [ قول نفاة القياس ]
قد أتينا على ذكر فصول نافعة وأصول جامعة في تقرير القياس والاحتجاج به لعلك لا تظفر بها في غير هذا الكتاب ، ولا بقريب منها ، فلنذكر مع ذلك ما قابلها من
النصوص والأدلة الدالة على ذم القياس ، وأنه ليس من الدين ، وحصول الاستغناء عنه والاكتفاء بالوحيين ، وها نحن نسوقها مفصلة مبينة بحمد الله .
قال الله - تعالى - : {
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } ، وأجمع المسلمون على أن الرد إلى الله - سبحانه - هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه في حضوره وحياته وإلى سنته في غيبته وبعد مماته ، والقياس ليس بهذا ولا هذا .
ولا يقال : الرد إلى القياس هو من الرد إلى الله ورسوله ، لدلالة كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام كما تقدم تقريره ; لأن الله - سبحانه - إنما ردنا إلى كتابه وسنة رسوله ولم يردنا إلى قياس عقولنا وآرائنا قط ، بل قال - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم : {
وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ، وقال : {
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } ، ولم يقل بما رأيت أنت ، وقال : {
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ، {
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } ، {
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } ، وقال - تعالى - : {
اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } ، وقال - تعالى - : {
ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } وقال : {
أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } ، وقال : {
قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي } ، فلو كان القياس هدى لم ينحصر الهدى في الوحي ، وقال : {
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } ، فنفى الإيمان حتى يوجد تحكيمه وحده ، وهو تحكيمه في حال حياته وتحكيم سنته فقط بعد وفاته ، وقال - تعالى - : {
يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } ، أي لا تقولوا حتى يقول .
[ ص: 175 ] قال نفاة القياس : والإخبار عنه بأنه حرم ما سكت عنه أو أوجبه قياسا على ما تكلم بتحريمه أو إيجابه تقدم بين يديه ; فإنه إذا قال : " حرمت عليكم الربا في البر " فقلنا : ونحن نقيس على قولك البلوط ، فهذا محض التقدم .
قالوا : وقد حرم - سبحانه - أن نقول عليه ما لا نعلم ، فإذا فعلنا ذلك فقد واقعنا هذا المحرم يقينا ، فإنا غير عالمين بأنه أراد من تحريم الربا في الذهب والفضة تحريمه في القديد من اللحوم ، وهذا قفو منا ما ليس لنا به علم ، وتعد لما حد لنا ، " ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه " ، والواجب أن نقف عند حدوده ، ولا نتجاوزها ولا نقصر بها .
ولا يقال : فإبطال القياس وتحريمه والنهي عنه تقدم بين يدي الله ورسوله ، وتحريم لما لم ينص على تحريمه ، وقفو منكم ما ليس لكم به [ علم ] ; لأنا نقول : الله - سبحانه وتعالى - أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا ، وأنزل علينا كتابه ، وأرسل إلينا رسوله يعلمنا الكتاب والحكمة ، فما علمناه وبينه لنا فهو من الدين ، وما لم يعلمناه ولا بين لنا أنه من الدين فليس من الدين ضرورة ، وكل ما ليس من الدين فهو باطل ; فليس بعد الحق إلا الضلال ; وقد قال - تعالى - : {
اليوم أكملت لكم دينكم } ، فالذي أكمله الله - سبحانه - وبينه وهو ديننا ، لا دين لنا سواه ، فأين فيما أكمله لنا " قيسوا ما سكت عنه على ما تكلمت بإيجابه أو تحريمه أو إباحته ، سواء كان الجامع بينهما علة أو دليل علة أو وصفا شبهيا ، فاستعملوا ذلك كله وانسبوه إلي وإلى رسولي وإلى ديني واحكموا به علي " .
قالوا : وقد أخبر - سبحانه - : {
إن الظن لا يغني من الحق شيئا } ، وأخبر رسوله : " إن الظن أكذب الحديث " ونهى عنه ، ومن أعظم الظن ظن القياسيين ، فإنهم ليسوا على يقين أن الله - سبحانه وتعالى - حرم بيع السمسم بالشيرج والحلوى بالعنب والنشا بالبر ، وإنما هي ظنون مجردة لا تغني من الحق شيئا .
قالوا : وإن لم يكن قياس الضراط على " السلام عليكم " من الظن الذي نهينا عن اتباعه وتحكيمه وأخبرنا أنه لا يغني من الحق شيئا فليس في الدنيا ظن باطل ، فأين الضراط من " السلام عليكم " ؟ وإن لم يكن قياس الماء الذي لاقى الأعضاء الطاهرة الطيبة عند الله في إزالة الحدث على الماء الذي لاقى أخبث العذرات والميتات والنجاسات ظنا فلا ندري ما الظن الذي حرم الله - سبحانه - القول به وذمه في كتابه وسلخه من الحق ، وإن لم يكن قياس أعداء الله ورسوله من عباد الصلبان
واليهود الذي هم أشد الناس عداوة للمؤمنين على
[ ص: 176 ] أوليائه وخيار خلقه وسادات الأمة وعلمائها وصلحائها في تكافؤ دمائهم وجريان القصاص بينهم فليس في الدنيا ظن يذم اتباعه .
قالوا : ومن العجب أنكم قستم أعداء الله على أوليائه في جريان القصاص بينهم فقتلتم ألف ولي لله قتلوا نصرانيا واحدا يجاهرهم بسب الله ورسوله وكتابه علانية ، ولم تقيسوا من ضرب رأس رجل بدبوس فنثر دماغه بين يديه على من طعنه بمسلة فقتله .
قالوا : وسنبين لكم من تناقض أقيستكم واختلافها وشدة اضطرابها ما يبين أنها من عند غير الله .
قالوا : والله - تعالى - لم يكل بيان شريعته إلى آرائنا وأقيستنا واستنباطنا ، وإنما وكلها إلى رسوله المبين عنه ، فما بينه عنه وجب اتباعه ، وما لم يبينه فليس من الدين ، ونحن نناشدكم الله : هل اعتمادكم في هذه الأقيسة الشبهية والأوصاف الحدسية التخمينية على بيان الرسول أم على آراء الرجال وظنونهم وحدسهم ؟ قال الله - تعالى - : {
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } ، فأين بين النبي صلى الله عليه وسلم أني إذا حرمت شيئا أو أوجبته أو أبحته فاستخرجوا وصفا ما شبهيا جامعا بين ذلك وبين جميع ما سكت عنه فألحقوه به وقيسوا عليه .
قالوا : والله - تعالى - قد نهى عن ضرب الأمثال له ، فكما لا تضرب له الأمثال لا تضرب لدينه ، وتمثيل ما لم ينص على حكمه بما نص عليه لشبه ما ضرب الأمثال لدينه ، وهذا بخلاف ما ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمثال في كثير من الأحكام التي سأل عنها ، كما أمرهم بقضاء الصلاة التي ناموا عنها فقالوا : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=1730ألا نصليها لوقتها من الغد ؟ فقال : أينهاكم عن الربا ويقبله منكم } ، وكما {
nindex.php?page=hadith&LINKID=26065قال nindex.php?page=showalam&ids=2لعمر وقد سأله عن القبلة للصائم أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته } ، وكما {
nindex.php?page=hadith&LINKID=26100قال لمن سألته عن الحج عن أبيها أرأيت لو كان على أبيك دين } ، وكما {
nindex.php?page=hadith&LINKID=26101قال لمن سأله : هل يثاب على وطء زوجته أرأيتم لو وضعها في الحرام } .