قالوا : وأيضا فإذا
اختلفت الأقيسة في نظر المجتهدين فإما أن يقال : كل مجتهد مصيب ; فيلزم أن يكون الشيء وضده صوابا ، وإما أن يقال : المصيب واحد ، وهو القول الصواب ، ولكن ليس أحد القياسين بأولى من الآخر ، ولا سيما قياس الشبه فإن الفرع قد يكون فيه وصفان شبيهان للشيء وضده ، فليس جعل أحدهما صوابا دون الآخر بأولى من العكس .
قالوا : وأيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم قال {
nindex.php?page=hadith&LINKID=8754 : أوتيت جوامع الكلم ، واختصرت لي الحكمة اختصارا } وجوامع الكلم : هي الألفاظ الكلية العامة المتناولة لأفرادها ، فإذا انضاف ذلك إلى بيانه الذي هو أعلى رتب البيان لم يعدل عن الكلمة الجامعة التي في غاية البيان لما دلت عليه إلى لفظ أطول منها وأقل بيانا ، مع أن الكلمة الجامعة تزيل الوهم وترفع الشك وتبين المراد .
فكان يقول : {
لا تبيعوا كل مكيل ولا موزون بمثله إلا سواء بسواء } فهذا أخصر وأبين
[ ص: 199 ] وأدل وأجمع من أن يذكر ستة أنواع ، ويدل بها على ما لا ينحصر من الأنواع ، فكمال علمه صلى الله عليه وسلم وكمال شفقته ونصحه وكمال فصاحته وبيانه يأبى ذلك .
قالوا : وأيضا فحكم القياس إما أن يكون موافقا للبراءة الأصلية ، وإما أن يكون مخالفا لها ; فإن كان موافقا لم يفد القياس شيئا ; لأن مقتضاه متحقق بها ، وإن كان مخالفا لها امتنع القول به ; لأنها متيقنة فلا ترفع بأمر لا تتيقن صحته ; إذ اليقين يمتنع رفعه بغير يقين .
قالوا : وأيضا فإن غالب القياسات التي رأينا القياسيين يستعملونها رجم بالظنون ، وليس ذلك من العلم في شيء ، ولا مصلحة للأمة في اقتحامهم ورطات الرجم بالظنون حتى يخبطوا فيها خبط عشواء في ظلماء ، ويحكموا بها على الله ورسوله .
قالوا : وأيضا فقول القياسي هذا حلال وهذا حرام هو خبر عن الله - سبحانه - أنه أحل كذا وحرمه ، وأنه أخبر عنه بأنه حلال أو حرام ، فإن حكم الله خبره فكيف يجوز لأحد أن يشهد على الله أنه أخبر بما لم يخبر به هو ولا رسوله ، قال الله تعالى : {
فإن شهدوا فلا تشهد معهم } .
قالوا : وأيضا فالقياس لا بد فيه من علة مستنبطة من حكم الأصل ، والحكم في الأصل احتمل أن يكون لنا طريق إلى العلم بعلته واحتمل أن لا يكون لنا طريق ، وإذا كان لنا طريق احتمل أن يكون معللا وأن يكون غير معلل ، وإذا كان معللا احتمل أن تكون العلة هي هذه المعينة وأن تكون جزء علة وأن تكون العلة غيرها ، وإذا ظهرت العلة احتمل أن لا تكون في الفرع ، وإذا كانت فيه احتمل أن يتخلف الحكم عنها لمعارض آخر ، وما هذا شأنه كيف يكون من حجج الله وبيناته وأدلة الأحكام التي هدى الله بها عباده ؟
قالوا : وأيضا فلو كان القياس حجة لأفضى ذلك إلى تكافؤ الأدلة الشرعية وهو محال ، فإنه قد يتردد فرع بين أصلين أحدهما التحريم والآخر الإباحة ، فإذا ظهر في نظر المجتهد شبه الفرع بكل واحد منهما لزم الحكم بالحل والحرمة في شيء واحد ، وهو محال .
قالوا : وأيضا فليس قياس الفرع على الأصل في تعدية حكمه إليه أولى من قياسه عليه في عدم ثبوته بغير النص ، فحينئذ فنقول :
حكم الفرع حكم من أحكام الشرع ، فلا يجوز ثبوته بغير النص كحكم الأصل ، فما الذي جعل قياسكم أولى من هذا ؟ ومعلوم أن هذا أقرب إلى النصوص وأشد موافقة لها من قياسكم ، وهذا ظاهر .
قالوا : وأيضا فحكم الله بإيجاب الشيء يتضمن محبته ، وإرادته لوجوده ، وعلمه بأنه
[ ص: 200 ] أوجبه ، وكلامه الطلبي والخبري ، وجعل فعله سببا لمحبته لعبده ورضاه عنه وإثابته عليه ، وتركه سببا لضد ذلك ، ولا سبيل لنا إلى العلم بهذا إلا من خبر الله عن نفسه أو خبر رسوله عنه ، فكيف يعلم ذلك بقياس أو رأي ؟ هذا ظاهر الامتناع .