صفحة جزء
. [ ص: 114 ] دلالة الإلهام ذكرها بعض الصوفية وقال : ما وقع في القلب من عمل الخير فهو إلهام ، أو الشر فهو وسواس وقال بها بعض الشيعة فيما حكاه صاحب اللباب " قال القفال : ولو ثبتت العلوم بالإلهام لم يكن للنظر معنى ، ولم يكن في شيء من العالم دلالة ولا عبرة ، وقد قال تعالى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } فلو كانت المعارف إلهاما لم يكن لإرادة الأمارات وجه قال : ويسأل القاتل بهذا عن دليله ، فإن احتج بغير الإلهام فقد ناقض قوله ، وإن احتج به أبطل بمن ادعى إلهاما في إبطال الإلهام .

وحكى الماوردي والروياني في باب القضاء في حجية الإلهام خلافا ، وفرعا عليه أن الإجماع هل يجوز انعقاده لا عن دليل ؟ فإن قلنا : لم يصح جعله دليلا شرعيا جوزنا الانعقاد لا عن دليل ، وإلا فلا قال الماوردي : والقائل بانعقاده لا عن دليل هو قول من جعل الإلهام دليلا قلت : وقد اختار جماعة من المتأخرين اعتماد الإلهام ، منهم الإمام في تفسيره " في أدلة القبلة ، وابن الصلاح في فتاويه " فقال : إلهام خاطر حق من الحق ، قال : ومن علاماته أن يشرح له الصدر ولا يعارضه معارض من خاطر آخر .

وقال أبو علي التميمي في كتاب التذكرة في أصول الدين " : ذهب بعض الصوفية إلى أن المعارف تقع اضطرارا للعباد على سبيل الإلهام بحكم وعد الله سبحانه وتعالى بشرط التقوى ، واحتج بقوله تعالى : { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } أي تفرقون به بين الحق والباطل ، { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } أي مخرجا على كل ما التبس على الناس وجه الحكم فيه ، [ ص: 115 ] { واتقوا الله ويعلمكم الله } فهذه العلوم الدينية تحصل للعباد إذا زكت أنفسهم وسلمت قلوبهم لله تعالى ، بترك المنهيات وامتثال المأمورات ، إذ خبره صدق ، ووعده حق ، فتزكية النفس بعد القلب لحصول المعارضة فيه بطريق الإلهام بحكم وعد الله تعالى وذلك كإعداده بإحضار المقدمتين فيه مع التفطن لوجوه لزوم النتيجة عقيب النظر لقدرة الله اضطرارا ، ولا مدخل للقدرة الحادثة فيه وأما حصول هذه المعارف على سبيل إلهام المبتدأ من غير استعداد يكون من العبد ، فأحد هذين الوجهين غير ممكن في العقل ويمتنع في العادة وما ذكر من أن مدارك العلوم الإلهام يحتاج إلى هذا التفصيل ، وهو غلط في الحصر إذ ليس هو جميع المدارك ، بل مدرك واحد على ما بيناه وتأول بعض العلماء قولهم ، وقال : يمكن أن يريدوا أن العلوم كلها ضرورية مخترعة لله تعالى وقال الإمام شهاب الدين السهروردي - رحمه الله - في بعض أماليه محتجا على الإلهام بقوله تعالى : { وأوحينا إلى أم موسى } وقوله : { وأوحى ربك إلى النحل } فهذا الوحي مجرد الإلهام ، ثم إن من الإلهام علوما تحدث في النفوس الزكية المطمئنة قال عليه السلام : { إن من أمتي لمحدثين ومكلمين ، وإن عمر لمنهم } وقال تعالى : { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها } .

[ ص: 116 ] فأخبر أن النفوس ملهمة ، فالنفس الملهمة علوم لدنية هي التي تبدلت صفتها واطمأنت بعد أن كانت أمارة قال : وهذا النوع لا تتعلق به المصالح العامة من عالم الملك والشهادة ، بل تختص فائدته بصاحبه دون غيره ، إذ لم تكن له ثمرة السراية إلى الغير على طريق العموم ، وإن كانت له فائدة تتعلق بالاعتبار على وجه خاص ، قال : وإنما لم تكن له السراية إلى الغير على طريق العموم عن مفاتيح الملك لكون محلها النفس ، وقربها من الأرض والعالم السفلي ، بخلاف المرتبة الأولى ، وهو الوحي الذي قام [ بنقله ] الملك الملقى ، لأن محله القلب المجانس للروح الروحاني العلوي قال : وبينهما ثالثة وهي النفث في الروع يزداد بها القلب علما بالله وبإدراك المغيبات ، وهي رحمة خاصة تكون للأولياء فيها نصيب ، وإنما يكون بعثا في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتصل بروح القدس ، وترد عليه كموجة ترد على البحر ، فيكشف لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عقب ورودها على جبريل عليه السلام ، فتصير الرحمة بواسطة جبريل واصلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفث في روعه . انتهى .

واحتج غيره بما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم : { قد كان في الأمم محدثون ، فإن يكن في أمتي أحد فعمر } قال ابن وهيب : يعني ملهمون ولهذا قال صاحب نهاية الغريب " : جاء في الحديث تفسيره أنهم الملهمون ، والملهم هو الذي يلقى في نفسه الشيء فيخبر به حدسا وفراسة ، وهو نوع يخص الله به من يشاء من عباده ، كأنهم حدثوا بشيء فقالوه [ ص: 117 ] وأما قوله صلى الله عليه وسلم : { استفت قلبك وإن أفتاك الناس } فذلك في الواقعة التي تتعارض فيها الشبه والريب قال الغزالي : واستفتاء القلب إنما هو حيث أباح الشيء ، أما حيث حرم فيجب الامتناع ، ثم لا يعول على كل قلب ، فرب موسوس ينفي كل شيء ، ورب مساهل نظر إلى كل شيء فلا اعتبار بهذين القلبين ، وإنما الاعتبار بقلب العالم الموفق المراقب لدقائق الأحوال ، فهو المحك الذي تمتحن به حقائق الصور ، وما أعز هذا القلب وقال البيهقي في شعب الإيمان " : هذا محمول على أنه يعرف في شأنه من علم الغيب ما عسى يحتاج إليه أو يحدث على لسان ملك بشيء من ذلك ، كما ورد في بعض طرق الحديث : { وكيف يحدث ؟ قال : يتكلم الملك على لسانه } وقد روي عن إبراهيم بن سعد أنه قال في هذا الحديث : يعني يلقى في روعه تنبيه لا يخفى أن المراد بهذا في غير الأنبياء عليهم السلام ، وإلا فمن جملة طرق الوحي الإلهام .

التالي السابق


الخدمات العلمية