وقد ذكر ذلك من أصحابنا الأصوليين
الشيخ في اللمع " فقال :
إذا تعارض عامان ، فإن أمكن استعمالهما في حالين استعملا ، وإلا وجب التوقف وكذا قال
سليم في التقريب " : إذا ورد مثل " اقتلوا المشركين " ، " لا تقتلوا المشركين " فإنهما يستعملان ، فيحمل كل منهما على بعض ما تناوله ، ويخص في الثاني وقيل : يتوقف فيهما وأما
إمام الحرمين فنقل ذلك عن الفقهاء وقال : هو مردود عند الأصوليين ، بل لا بد من دليل خارج عن ذلك وأما أن
يجعل أحدهما دليلا في تخصيص التالي ، والثاني في تخصيص الأول فلا سبيل إليه وهذا تابع فيه
القاضي ، ثم قال : وكأن الفقهاء رأوا تصرفا في الظواهر مستقلا بنفسه ، والظاهر أنهما على تعارضهما إلا أن يتجه تأويل وينتصب عليه دليل .
قال
ابن المنير : وكأن
الإمام ظن أن الفقهاء يتحكمون بتعيين صورة من صورة حتى تكون هذه ثابتة وهذه مخرجة وليس كذلك ، بل صنيعهم راجع إلى أن العمل مع الإمكان خير من التعطيل والقائل بالتعارض عطلهما جميعا ، والقائل بتخصيص كل منهما ببعض صوره عمل بهما جميعا حسب إمكانه ثم لهم في التعيين طريقة مستأنفة ، وذلك لأن صور العام لا بد أن تتفاوت باعتبار ثبوت ذلك الحكم ، فتعيين الفقهاء أولى الصور بالحكم لأنهم لو عينوا القسم الآخر لزم عموم الحكم ضرورة أن ثبوته في الأدنى يقتضي
[ ص: 151 ] ثبوته في الأعلى ، مثاله : إذا قابلنا بين حديث {
nindex.php?page=hadith&LINKID=2081أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله } مع قوله : {
nindex.php?page=hadith&LINKID=18270خذ من كل حالم دينارا } كان الحديث الأول يقتضي أن لا تقبل الجزية من أحد ، والثاني يقتضي قبولها من كل أحد ، فإذا حملنا كلا منهما على بعض صوره نظرنا في صور الكفار وجدناها قسمين : كتابيا وغير كتابي ، فعينا الكتابي للجزية ، وغيره للسيف وليس هذا احتكاما ، ولكن لما لم يكن بد من التخصيص وجدنا الكتابي أولى بالقبول من غيره ، لأنه أقرب إلى أن يستبقى ، إذ له عقيدة ما ولهذا أجاز الشرع نكاح الكتابيات دون الوثنيات ، ولهذا لما نشبت الحرب بين
فارس والروم كان المسلمون يتمنون نصرة
الروم ، لأنهم أهل كتاب ، وكان المشركون يتمنون نصرة
فارس ، لأنهم مثلهم بلا كتاب فبهذه الطريقة يعين الفقهاء صور الإثبات من صور الإخراج ، لا بالاحتكام وبذلك يزول عنهم ألسنة الطاعنين .
وأما قول
الإبياري : تخصيص العمومين تعطيل لهما فلا يصح قول الفقهاء : في الجمع عمل بهما فهذا ينتقض عليه بما
إذا تعارض عام وخاص ، فإنه وافق على أن القضاء بالخاص على العام يتعين لأنه عمل بهما
قلت : والتحقيق إنه إذا لم نجد متعلقا سواهما تصدى لنا الإلغاء والجمع ، والأليق بالشرع الجمع وإن وجدنا متعلقا سواهما فالمتعلق هو المتبع وهو الظاهر من تصرف
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، فإنه حمل حديث
ابن بريدة على عمومه في
أهل الكتاب وحديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة في أهل الأوثان ، فقال : لا يقضي بأحدهما على الآخر ، لتساويهما في القضاء ، إلا أنه ليس له أن يقول {
حتى يقولوا لا إله إلا الله أو يعطوا } إلا وللآخر أن يقول : إنه أمره أن يدعوهم إلى إحدى خلال إذا كانوا من
أهل الكتاب وإذ تعارضا رجعنا إلى دلالة الكتاب فقد قال تعالى : {
ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية } فدل على أن من لم يكن من
أهل الكتاب لا تؤخذ منه الجزية ، ولهذا امتنع
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر من أخذها من
مجوس هجر .
[ ص: 152 ] ومثله اختلاف قوليه في إتمام وضوء الجنابة لأجل اختلاف روايتي
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة وميمونة ولم يجمع بينهما كما فعل
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك بل رجح حديث
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة لموافقته تشريع العبادة وكذلك فعل في القراءتين فإنه اختلف قولاه في انتقاض وضوء الملموس لأجل تعارض قراءة ( لمستم ) و ( لامستم ) ورجح النقض بأمر خارجي .