[ ص: 324 ] فصل
التقليد ينقسم إلى قسمين : أحدهما : أن يكون المقلد عالما بأن الذي يقلده لا يخطئ ، فيما قلده فيه ، فيلزمه القبول بمجرده ، كقبول الأئمة عن الرسول الأحكام ، وقبول قول المجمعين . قال
الأستاذ : وأجمع أصحابنا على وجوب هذا القول ، وإنما اختلفوا في تسميته تقليدا . والثاني : قبوله على احتمال الصواب والخطأ . والعلوم نوعان : عقلي وشرعي . الأول : العقلي وهو
المسائل المتعلقة بوجود الباري وصفاته ، واختلفوا فيها ، والمختار أنه لا يجوز التقليد ، بل يجب تحصيلها بالنظر ، وجزم به
nindex.php?page=showalam&ids=16392الأستاذ أبو منصور ،
nindex.php?page=showalam&ids=11976والشيخ أبو حامد الإسفراييني في تعليقه ، وحكاه
الأستاذ أبو إسحاق في شرح الترتيب " عن إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف .
وقال
أبو الحسين بن القطان في كتابه : لا نعلم خلافا في امتناع
التقليد في التوحيد . وقال بعضهم : لو خشى المكلف أن يموت لم يجز التقليد . وحكاه
ابن السمعاني عن جميع
المتكلمين ، وطائفة من الفقهاء وقالوا : لا يجوز للعامي التقليد فيها ، ولا بد أن يعرف ما يعرفه بالدليل . وقالوا : العقائد الأصولية عقلية ، والناس مشتركون في العقل . وقال : وأكثر الفقهاء على خلاف هذا ، وقالوا : لا يجوز أن يكلف العوام لاعتقاد الأصول بدلائلها ، لما في ذلك من المشقة ، ومثله ما نقله صاحب العنوان " عن الفقهاء من جواز التقليد فيها ، تأسيا بالسلف ، إذ لم يأمر النبي عليه الصلاة والسلام أجلاف
العرب بالنظر ، ونازعه
ابن دقيق العيد [ ص: 325 ] في هذا الاستدلال بأنه إذا أريد بالنظر المصطلح ، من ترتيب المقدمات فلا يعتبر اتفاقا وإن أراد أنه لم يحصل لهم النظر في نفس الأمر ، من غير هذا الترتيب والاصطلاح ممنوع ، وكيف وقد شاهدوا المعجزة ، وأحوال الرسول ، والقرائن التي شاهدوها أفادتهم القطع .
وقيل : بل يجب التقليد ، والاجتهاد فيه حرام ، ونقله صاحب
" الأحوذي " عن الأئمة الأربعة وقال
إمام الحرمين في الشامل " : لم يقل بالتقليد في الأصول إلا الحنابلة ، وقال
الإسفراييني : لم يخالف فيه إلا
أهل الظاهر . وقال
القرافي : وسألت الحنابلة فقالوا : مشهور مذهبنا منع التقليد
والغزالي يميل إليه ، وحكاه
nindex.php?page=showalam&ids=14961القاضي عياض في الشفاء " عن غيره . وقال
الأستاذ أبو إسحاق : ذهب قوم من كتبة الحديث ، أن طلب الدليل فيما يتعلق بالتوحيد غير واجب ، وإنما الغرض هو الرجوع إلى قول الله ورسوله ، ويرون الشروع في موجبات العقول كفرا ، وإن الاستدلال والنظر ليس هو المقصود في نفسه ، وإنما وهو طريق إلى حصول العلم حتى يصير بحيث لا يتردد ، فمن حصل له هذا الاعتقاد الذي لا شك فيه ، من غير دلالة ، فقد صار مؤمنا وزال عنه كلفة طلب الأدلة ، ومن أحسن الله إليه ، أنعم عليه بالاعتقاد الصافي من الشبهة والشكوك ، فقد أنعم عليه بأكل أنواع النعم وأحلها ، حتى لم يكله إلى النظر والاستدلال ، لا سيما العوام ، فإن كثيرا منهم تجده في صيانة اعتقاده أكثر ممن شاهد ذلك بالأدلة .
ومن كان هذا وصفه ، كان مقلدا في الدليل ، غير أن أصحابنا أجمعوا ، على أن هذا الاعتقاد يجب أن يكون في النيات ، بحيث لا يرد عليه من الشبهة .
[ ص: 326 ] إلا ما يرد على صاحب الاستدلال ، وجزم
nindex.php?page=showalam&ids=16392الأستاذ أبو منصور بوجوب النظر ، ثم قال : فلو اعتقد من غير معرفة بالدليل ، فاختلفوا فيه ، فقال أكثر الأئمة : إنه مؤمن من أهل الشفاعة ، وإن فسق بترك الاستدلال ، وبه قال أئمة الحديث ، وقال
الأشعري وجمهور
المعتزلة : لا يكون مؤمنا ، حتى يخرج فيها عن جملة المقلدين . انتهى .
وقد اشتهرت هذه المقالة عن
الأشعري ، أن إيمان المقلد لا يصح ، وقد أنكر
أبو القاسم القشيري ،
nindex.php?page=showalam&ids=14048والشيخ أبو محمد الجويني ، وغيرهما من المحققين صحته عنه ، وقيل : لعله أراد به قبول قول الغير بغير حجة ، فإن التقليد بهذا المعنى قد يكون ظنا ، وقد يكون وهما ، فهذا لا يكفي في الإيمان . أما
التقليد بمعنى الاعتقاد الجازم لا الموجب ، فلم يقل أحد أنه لا يكفي في الإيمان ، إلا
nindex.php?page=showalam&ids=12187أبو هاشم من
المعتزلة وإذا منعنا التقليد في ذلك قال
الأستاذ أبو إسحاق : فاتفقوا على أنه لا يجب أن يبلغ فيه رتبة الاجتهاد ، بحيث يحل له الفتوى في الحكم . وقال
ابن السمعاني : إيجاب معرفة الأصول على ما يقوله
المتكلمون ، بعيد جدا عن الصواب ، ومتى أوجبنا ذلك فمتى يوجد من العوام من يعرف ذلك ؟ ويصدر عقيدته عنه ؟ كيف وهم لو عرضت عليهم تلك الأدلة لم يفهموها ، وإنما غاية العامي ، أن يتلقى ما يريد - أن يعتقده ويلقى [ به ] ربه - من العلماء ، ويتبعهم في ذلك ويقلدهم ، ثم يسلم عليها بقلب طاهر عن الأهواء والإدخال ، ثم يعض عليها بالنواجذ ، فلا يحول ، ولا يزول ، ولو قطع إربا ، فهنيئا لهم السلامة ، والبعد عن الشبهات الداخلة على أهل الكلام ، والورطات التي تغولها ، حتى أدت بهم إلى المهاوي والمهالك ، ودخلت عليهم الشبهات العظيمة وصاروا متجرئين ، ولا يوجد فيهم متورع عفيف إلا القليل ، فإنهم أعرضوا عن ورع الألسنة ، وأرسلوها في صفات الله تعالى بجرأة وعدم مهابة وحرمة ، ففاتهم ورع سائر الجوارح ، وذهب
[ ص: 327 ] عنهم بذلك ورع اللسان ، والإنسان كالبنيان يشد بعضهم بعضا ، فإذا خرب جانب منه ، تداعى سائره إلى الخراب ، ولأنه ما من دليل لفريق منهم يعتمدون عليه ، إلا ولخصومهم عليه من الشبهة القوية .
ونحن لا ننكر من الدلائل العقلية بقدر ما ينال المسلم به رد الخاطر ، وإنما المنكر إيجاب التوصل إلى العقائد في الأصول ، بالطريق الذي اعتقدوا ، وساموا به الخلق ، وزعموا أن من لم يفعل ذلك لم يعرف الله تعالى ، ثم أدى بهم ذلك إلى تكفير العوام أجمع ، وهذا هو الخطيئة الشنعاء ، والداء العضال ، وإذا كان السواد الأعظم هم العوام ، وبهم قوام الدين ، وعليهم مدار رحى الإسلام ، ولعل لا يوجد في البلدة الواحدة التي تجمع المائة ألف ، من يقوم بالشرائط التي تعتبرونها ، إلا العدد القليل الشاذ الشارد النادر ، ولعله لا يبلغ عقد العشرة ، فمن يجد المسلم من قبله ، أن يحكم بكفر هؤلاء الناس أجمع ، ويعتقد أنهم لا عقيدة لهم في أصول أصلا ، وإنهم أمثال البهائم . انتهى .