صفحة جزء
مسألة فلو اختار من كل مذهب ما هو الأهون عليه ، ففي تفسيقه وجهان : قال أبو إسحاق المروزي : يفسق ، وقال ابن أبي هريرة : لا ، حكاه الحناطي في فتاويه " . [ ص: 382 ] وأطلق الإمام أحمد : لو أن رجلا عمل بكل رخصة بقول أهل الكوفة في النبيذ ، وأهل المدينة في السماع ، وأهل مكة في المتعة كان فاسقا . وخص القاضي من الحنابلة التفسيق بالمجتهد إذا لم يؤد اجتهاده إلى الرخصة واتبعها ، وبالعامي المقدم عليها من غير تقليد ، لإخلاله بغرضه وهو التقليد . فأما العامي إذا قلد في ذلك فلا يفسق ، لأنه قلد من يسوغ اجتهاده . وفي " فتاوى النووي " الجزم بأنه لا يجوز تتبع الرخص .

وقال في فتاو له أخرى وقد سئل عن مقلد مذهب : هل يجوز له أن يقلد غير مذهبه في رخصة لضرورة ونحوها ؟ أجاب : يجوز له أن يعمل بفتوى من يصلح للإفتاء إذا سأله اتفاقا من غير تلقط الرخص ولا تعمد سؤال من يعلم أن مذهبه الترخيص في ذلك . وسئل أيضا : هل يجوز أكل ما ولغ فيه الكلب أو شربه تقليدا لمالك ؟ فأجاب : ليس له أكله ولا شربه إن نقص عن قلتين إذا كان على مذهب من يعتقد نجاسته . انتهى . وفي " أمالي " الشيخ عز الدين : إذا كان في المسألة قولان للعلماء ، بالحل والحرمة ، كشرب النبيذ - مثلا - فشربه شخص ولم يقلد أبا حنيفة ولا غيره ، هل يأثم أم لا ؟ لأن إضافته لمالك والشافعي ليست بأولى من إضافته لأبي حنيفة . وحاصل ما قال إنه ينظر إلى الفعل الذي فعله المكلف : فإن كان مما اشتهر تحريمه في الشرع أثم ، وإلا لم يأثم . انتهى .

وعن " الحاوي " للماوردي أن من شرب من النبيذ ما لا يسكر مع علمه باختلاف العلماء ولم يعتقد الإباحة ولا الحظر حد . وفي " فتاوى القاضي حسين " : عامي شافعي لمس امرأة رجل ولم يتوضأ ، فقال : عند بعض الأئمة الطهارة بحالها لا تصح صلاته ، لأن بالاجتهاد يعتقد مذهب الشافعي فلا يجوز له أن يخالف اجتهاده ، كما إذا اجتهد في القبلة وأدى اجتهاده إلى جهة وأراد أن يصلي إلى غير تلك الجهة لا يصح ، ولو جوزنا له ذلك لأدى إلى أن يرتكب محظورات المذاهب وشرب المثلث والنكاح بلا ولي ولا سبيل إليه . انتهى .

[ ص: 383 ] وفي " السنن " للبيهقي عن الأوزاعي : من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام . وعنه : يترك من قول أهل مكة المتعة والصرف ، ومن قول أهل المدينة السماع وإتيان النساء في أدبارهن ، ومن قول أهل الشام الحرب والطاعة ، ومن قول أهل الكوفة النبيذ ، قال : وأخبرنا الحاكم قال أخبرنا أبو الوليد يقول : سمعت ابن سريج يقول : سمعت إسماعيل القاضي قال : دخلت على المعتضد فدفع إلي كتابا نظرت فيه وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء وما احتج به كل منهم ، فقلت : مصنف هذا زنديق ، فقال : لم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت : الأحاديث على ما رويت ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، ومن أباح المتعة لم يبح المسكر ، وما من عالم إلا وله زلة ، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه ، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب . ومن فروع هذه القاعدة : أنه هل يجوز للشافعي - مثلا - أن يشهد على الخط عند المالكي الذي يرى العمل به ؟ صرح ابن الصباغ بأنه لا يجوز ، وهو ظاهر كلام الأصحاب في ( كتاب الأقضية ) .

قالوا : ليس له أن يشهد على خط نفسه ، والظاهر الجواز إذا وثق به وقلد المخالف . ويدل عليه تصحيح النووي قبول شهادة الشاهد على ما لا يعتقده كالشافعي يشهد بشفعة الجوار ، وحكى الرافعي فيه وجهين بلا ترجيح . ومنها : أن الحنفي إذا حكم للشافعي بشفعة الجوار هل يجوز له ؟ وفيه وجهان : أصحهما : الحل . وهذه المسألة تشكل على قاعدتهم في ( كتاب الصلاة ) أن الاعتبار بعقيدة الإمام لا المأموم . .

التالي السابق


الخدمات العلمية